في جولة سريعة على محلات بيع القهوة (المحامص) قد تتفاجأ بارتفاع أسعار البن «القهوة» مع تعدد أنواعها، ومصادر إنتاجها، وسهولة وصولها إلى منافذ التوزيع، في الوقت الذي يُقَيِّمُ فيه البعض، وأنا واحد منهم، أن أهمية القهوة كممارسة اجتماعية تراجعت إلى حد كبير، خاصة، بعد أن أغلقت المجالس «التقليدية» - المضافات - أبوابها بصورة نسبية، خاصة في المنازل، إلا في المجالس العامة، أيام المناسبات (أفراح وأتراح)، ووفق هذا التقييم أدى ذلك إلى تغيرات كبيرة لذائقة شرب القهوة، بين أغلب جمهورها الشاربين، كما أدى ذلك إلى أن دخل التغريب للمعنى الحقيقي لحقيقة شرب للقهوة كمكون له شروطه، وخصوصيته، وشرب القهوة كثقافة، وكفهم سسيولوجي في المخيلة الاجتماعية، هل يعني ذلك أن عصرا جديدا دخل في الفهم الاجتماعي لمفهوم شرب القهوة، واقتنائها وتجاوز مسمياتها، وأنواعها، وأصالتها؟ هل يمكن الجزم أن القهوة لم تعد المشروب الأول لقطاع عريض من الناس؟ وهنا أتحدث عن القهوة التقليدية «السادة» في صورتها المتوارثة.
نعم، تنتشر، اليوم أكثر من أي زمن مضى، مقاهي شرب القهوة، وهناك تتوزع عبرها بنكهات مختلفة، وبمواصفات مختلفة، وبصناعات مختلفة (قهوة بالسكر، قهوة بالحليب، قهوة مثلجة، وغيرها) وشربها لا يحتاج إلى «لمة» كما كان الأمر سابقا، وفي مجمل كل هذه الصور المختلفة للقهوة، تظل صور «مستوردة» بذائقتها المستوردة، وليست بصورتها التقليدية المتوارثة، والفكرة تناقش هذه الجزئية من فهوم شرب القهوة، فهذا النوع من القهوة المستحدثة في كل تفاصيلها، حاضنته أجيال اليوم، وليس من تربّوا على ذائقة القهوة التقليدية المرتبطة بصحون التمر، وبتكور الجلسات، وبكثير من القيم الاجتماعية المرتبطة بالقهوة، وإن كانت تتفق على صورة واحدة، وهي أنها مستوردة.
شهدت مجالس كبار السن - حتى زمن قريب - ممارسات وقيم وتقاليد، مرتبطة بشرب القهوة، وهناك الكثير من القصص التي كان يرويها كبار السن عن المواقف التي كانت تحدث نتيجة لجلسات شرب القهوة، كما خلدت هذه الجلسات عبر قصص تقليدية، ومواقف بعضها مضحكة، وبعضها الآخر فيها ما فيها من الذم، والقسوة على صبابي القهوة، وحالات الارتباك لقلة الخبرة في التعامل مع كبار السن، وفي الجلسات التي كانت تمتلأ بالشخصيات التي لها وزن ما في المجتمع، أو في حالة حلول ضيوف على مجتمع القرية، خاصة من فئات صغار السن، الذين يبدؤون حيواتهم المتدرجة في تعلم القيم، ولذلك شكلت المجالس العامة التي يرتادها كبار السن، وغيرهم الفرصة المتاحة لتعلم الكثير من القيم التقليدية سواء في ممارسة شرب القهوة، ومختلف الفنيات المرتبطة بها.
ولذلك تصدر شرب القهوة كأهم محطة أولى لإكرام الضيف، واختبار حقيقي لصناع القهوة، خاصة وأنها كانت تصنع في هذه المجالس حتى عهد متأخر للدور الذي تقوم به المجالس العامة، وكان هناك حرص من أغلبية الناس في مجتمع القرية ألا يتناول القهوة في بيته، بل مع الـ«جماعة» في مجلس القرية، سواء بعد صلاة العصر، أو بعد صلاة العشاء في بعض الأماكن، وهي الفترة التي ينفض من بعدها الجميع إلى منازلهم.
وفي ظل التغريب الذي يكتسح الكثير من الممارسات الاجتماعية، على ما يبدو، أنه سيأخذ القهوة عبر أجنحته المرفرفة، فما هو البديل الذي سينحاز إليه الجيل اليوم، الذي يأخذه ضيوفه إلى المقاهي، بدلا من المنازل، التي هي الأخرى تبدلت بداخلها الخرائط والتقسيمات، حيث لم تعد تحتضن مجلسا «سبلة» وإنما صالات مفتوحة على بعضها، مع وجود، أحيانا، فواصلة مؤقتة، لضرورات قصوى، أما مفهوم مجلس خاص للرجال، فأزيل من ذاكرته الاجتماعية إلى الأبد.
0 تعليق