كنتُ أتصفح كعادتي الصحف العالمية، ضجرة كالعادة من العناوين الغارقة فـي مركزية الغرب حتى عندما يحاول ادعاء موقف آخر فـي الظاهر. أصبحتُ أكثر حساسية للموضوعات التي تنشرها الصحف الأمريكية والأوروبية عما يحدث فـي غزة. شاركتني صديقتي قبل أيام منشورًا لكاتب فلسطيني ينبه للغة التي تستخدم فـي كل من نيويوركر، ونيويورك تايمز، إذ نشرت الأولى مقالًا بعنوان «غزونة الضفة» والثانية مقالًا بعنوان «النجاة من غزة» تُطبع كارثية غزة وتجعلها مكانًا للفاجعة فحسب، بدلًا من الإشارة للحديث عن «النجاة بغزة» يصبح بدلًا الحديث عن «النجاة منها».
نشرت نيويوركر هذا الأسبوع مقالًا بعنوان «التحول لليهودية فـي أعقاب السابع من أكتوبر» للكاتبة جيني سوك غيرسن، وتحكي فـي مقالها هذا قصة تحولها لليهودية بعد لقائها بزوجها اليهودي نوح، غيرسن كورية مسيحية، هاجرت من كوريا لأمريكا مع أسرتها عندما كان عمرها ست سنوات، واجهت غيرسن تحديات كثيرة فـي بدايات علاقتها بنوح سواء من قبل عائلته، أو الحاخام اليهودي المرتبط بالعائلة، ذلك بسبب الديانة اليهودية التي تشترط أن تكون الأم يهودية ليصبح الأبناء يهوديين بدورهم، لتبدأ قصة تحول طويلة ومعقدة. ليس هذا ما يلفت الانتباه بصورة خاصة فـي «التاريخ الشخصي» الذي ترويه غيرسن، بل فـي حديثها عن المجتمعات الصغيرة التعليمية التي نشأت وتضاعفت بعد السابع من أكتوبر عام 2023.
تقول غيرسن أنها اكتشفت كون رحلتها هذه جزء من حركة أكبر بدأت مع ما أسمته «أزمة أكتوبر 2023». والتي تسببت بخروج مظاهرات مناهضة لإسرائيل ارتفعت معها معاداة السامية ــ لاحظ معي عزيزي القارئ، يتم ربط إسرائيل بالسامية دومًا، وكنا قد تحدثنا كثيرًا عن هذا الربط غير البريء ـــ تكتب غيرسن عن الكسر والرعب داخل المجتمع اليهودي، ومع ذلك لاحظ الحاخامات من مجموعة واسعة من المؤسسات اليهودية شيئًا لم يتوقعوه وهو زيادة الاهتمام باليهودية فـي أمريكا. فكتبت عن لقائها بإليوت كوسجروف، الحاخام المحافظ ومؤلف الكتاب الجديد «لمثل هذا الوقت: عن كونك يهوديا اليوم»، أنه منذ 7 أكتوبر رأى مشاركة من «داخل وخارج حدود الجالية اليهودية التقليدية» على مستوى لم يشهده من قبل. شمل ذلك زيادة عضوية الكنيس، وتوسيع التسجيل فـي برامج المدارس العبرية، - ودورات تحول للأشخاص المهتمين بأن يصبحوا يهودا.
الجدير بالذكر أن اليهودية خلافا لبعض الديانات الأخرى لا تعتمد على «التبشير» إلا أن هذا لم تحتجه اليهودية فـي هذا الوقت. تكتب غيرسن نقلًا عن الحاخامة ليزا روبن فـي الكنيس المركزي «مركز استكشاف اليهودية» الذي يعمل على تثقيف الوافدين الجدد لليهودية، بأن البرنامج سجل ضعف العدد المعتاد للطلاب بل أن قائمة الانتظار وصلت لسبعة أشهر. معظم من سجلوا هذه الدورات شعروا بأن هذا الوقت صار أكثر إلحاحًا، حتى أولئك الذين كانوا مرتبطين بشركاء يهود، شعروا بأهمية أن يتعجلوا هذه الخطوة فـي هذا الوقت.
تذكرت بهذا الصدد تحولًا لاحظته وناقشته مع أصدقائي من غزة وخارجها، حول خيارات الجماهير السياسية والتي تغيرت قبل وبعد السابع من أكتوبر، من دعم للجماعات الإسلامية السياسية، أو حتى الموقف من الدين، حتى مع الاختلاف الأيدلوجي مع الحركة الإسلامية للمقاومة حماس، أو الاختلاف مع حزب الله اللبناني، إلا أن هذه الاختلاف تمت مراجعته، هنالك تيارات جديدة حتى داخل الحركات السياسية الناشئة، فأصبحنا نقرأ عن مجموعة تعتبر«يسارية» إلا أنها تتهم بتبعية محور الممانعة ومركزيته كما نعلم إيران. كيف يمكن أن تصبح حتى المؤسسات الصحفـية والثقافـية والنشاطوية التي تقدم نفسها عربيًا بكونها كويرية، داعمة للمانعة والمحور الذين يعتبرون إسلاميين، كل هذه المعادلات أصبحت تُقرأ فـي سياقها الجديد. شخصيًا عرفتُ العديد من الأشخاص الذين تدينوا أكثر من السابق بعد السابع من أكتوبر، آخرين وإن لم يكونوا متدينين وقدموا أنفسهم فـي أماكن لجوئهم فـي الغرب بـ«كونيين» اعتمادًا على أطروحة الإنسان «الكوني» بدلًا من الانتماءات القومية والعقدية وغيرها، أعادوا النظر بعد خذلانهم من هذه المنظومة التي تدعي الكونية عندما لا يشمل ذلك غير معتقدات الأوروبيين والأمريكيين، فباتوا يقدمون أنفسهم كمسلمين لشعورهم بمسؤوليتهم الأخلاقية تجاه موقف هذه الدول من هذه الجماعات وإبادتها التي يجري تحقيقها بالفعل فـي غزة.
أتذكر أنني قبل نحو ثلاث سنوات قدمتُ مراجعة للعديد من الكتب منها «أرض جوفاء» لايال وايزمان وكتاب آخر هو «اليهود العرب: قراءة ما بعد كونوليالية فـي القومية والديانة والأثنية» للكاتب يهودا شهناف شهرياني، واللذان يقدمان فـي بعض فصولهما كتابة عن الأسس الدينية لإسرائيل التي تدعي العلمانية، والتي تضعنا إزاء نوع من الابتزاز يجعلنا متوجسين من الخلط بين اليهودية والصهيونية، فـيما يشبه ذلك الابتزاز المزدوج الذي كتب عنه سلافوي جيجك وان فـي سياق آخر، حول تحول اليسار الأمريكي والأوروبي للتعاطف مع التيارات الإسلامية على اختلافها، تعويضًا عن تركة الاستعمار وخوفًا من تهمة الاستشراق والمركزية. ما أحاول قوله إن مراجعة اليهودية وتعلم العبرية ينبغي أن تكونا من ضمن اهتماماتنا فـي العالم العربي والإسلامي اليوم، وقراءة ممارسات دولة الاحتلال فـي ضوء الأثر اليهودي الديني ضرورية أكثر من أي وقت سابق مع يقظة واجبة تجاه الاستقطاب، والنكوص نحو الأصوليات والأديان والتعصب، أكثر من أي وقت سابق.
0 تعليق