كن أذن خير - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
يموج العالم اليوم باضطرابات مختلفة، وأقربها ما يحدث في بلاد الشّام، من أحداث غزّة ولبنان وأخيرا ما يتجدّد في سوريا، وما سبق ذلك من أحداث اليمن وليبيا والسّودان، بعضها واضحة المعالم كما في غزّة من دمار وإبادة لشعب أعزل، وبعضها أقرب إلى الفتنة، تجعل الحليم حيران، «والفتنة أشدّ من القتل»، ومن أعظم الفتن الصرّاعات الدّاخليّة والأهليّة، والّتي تجعل الأرض بلاقع، وتأكل الأخضر واليابس، وتخرّب الدّيار، وترمل النّساء، وتيتم الأطفال، ويعمّ فيها الخوف، ويرتفع الأمن، فينتشر الجوع والفقر والمسكنة.

لنجد بعضهم، وهو لا يدرك ما يحدث، متكئا على أريكته، مطمئنا في سربه، عنده بكل يسر قوت يومه، يلاعب أولاده، ويجالس خلّانه، يتحوّل إلى مجاهد في طرفة عين، يشجّع هذا الفريق، أو يخوّن ذاك الفريق، وهو لا يدرك أبعاد السّياسة، ولا أسباب القضيّة، إلّا ما يرويه الإعلام المؤدلج، والمنشورات المتناقضة، فيساهم في إشعال النّار بدلا أن يسعى لإطفائها، ويكون أداة تهييج بدل أن يكون أداة تعقل وأذن خير.

ومنهم من تحرّك قلمه سياسات لا همّ لها إلّا خراب البلدان، وانتشار الفوضى في العالم، لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة، أو حتّى لاهوتيّة، يريدون أن يجعلوا النّاس قطيعا لشعارات ذات اليمين وذات الشّمال، فتخدّر العقول ليرتفع التّعقل، وتثير العواطف لتتحوّل إلى فعل يسقط أسباب ذلك على بلده، وكأنّها سبب دمار الأوطان.

وقد يسقطون شعاراتهم على عقول فارغة، ترى ما يقوله مقدّسا، وصوابا لا يحتمل الخطأ، فتملأ عواطفه ليغيب تعقّله، فيعيش في سكرة الوهم، ليرى في حقيقة ذاته أنّ القريب عدو له، وإن لم يظهرها بلسانه، بيد أنّك تدركها من لحن القول والتّغريدات والشّعارات، وتقسيمهم النّاس حسبما يبطنون في دواخلهم، فيسود العالم شعارات تهييجيّة، وخطابات مبطنة، لأغراض أيدلوجيّة، منهم الصّادق الّذي لا يقرأ الحدث إلّا اتّباعا لمن يزيده عاطفة لا تعقّلا، ومنهم من يدرك ذلك، ولكن يحمل في باطنه غير ما يظهره من استغلال مثل هذه الأحداث الأليمة، منتظرا ملاءمة الواقع ليظهر ما يبطنه، إذا لم يملأ هذا الواقع بالتّعقل، وتتمدّد فيه دائرة العقلاء، وإلّا سنجد في المستقبل نسخا أخرى من هذا الدّمار، متى ما كان هناك ضعف أمنيّ، وعدم استقرار داخليّ.

هذه الشّعارات المؤدلجة عندما تقع في عقول تحرّكها العواطف، وتسكرها جماليات الشّعارات، ترى أنّ خلاصها في تجارب ماضويّة، لا يشبهها اليوم إلّا بعض الجماعات المتطرّفة، فهم من يحكمون الشّريعة، ويرفعون راية الجهاد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسعون إلى تحقيق خلافة الله في الأرض، عكس دولهم وحكّامهم، ما هم إلّا أداة استعمار، وخدّاما للصّهاينة، لتتعلّق بواطنهم بهذه الجماعات، ويرون بيعتهم معلّقة بها، وإلّا مات ميتة جاهليّة، وقد ينغمس فيها، ويبايع أميرها أبا حفص القرشيّ الهاشميّ، وإن سألته من هو، وما نتاجه، وما الّذي أحياه للنّاس من خدمات، وما الّذي قدّمه من منافع، هنا يتوقف عن الجواب، ويقف عند الجهاد وتطبيق الشّريعة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وكأنّ هذه لا تتحقّق إلّا بخراب البلدان، وقتل النّفوس، وسبي النّساء، وتيتم الأطفال، وينسبون ذلك إلى الله، وكأنّه لم يخلق خلقه إلّا لسفك الدّم، ولا يتحقّق شرعه إلّا بإفساد الأرض، ونشر الفوضى فيها.

هذا المتعلّق قلبا وفكرا وقد يتحوّل إلى انغماس في هذه الجماعات، بعد حين يرى في باطنه أنّ دولته متصهينة متغرّبة، وهو يعيش فيها مطمئنا، تتقدّم في خدماتها وما ينفع النّاس، يتدافعون فيها لتحقيق معاشهم، والتّقدّم بوطنهم، والحفاظ على أمنهم، بينما يدرك مليّا حال هذه البلدان الّتي انتشرت فيها مثل هذه الجماعات، من خراب ودمار وفوضى، فأصبحت بلاقع أهلها مشرّدون بلا ذنب، وأبرياؤها يزدادون فقرا بلا رحمة، فلو تعقّل قليلا، وأبعد عنه عاطفة الشّعارات، لأدرك الفارق مليّا، وأنّ شريعة الله أوسع من أن تضيّق في حدود أو استعباد للبشر، فهي قائمة على إصلاح الأرض وعدم الإفساد فيها، وعلى حفظ دماء النّاس وأعراضهم وأموالهم، وعلى تحقيق قيم العدل والمساواة، وعلى احترام الآخر لإنسانيّته، وعلى السّير في الأرض لكشفها والإبداع فيها، وعلى تحريك العقول لعمارتها وزراعتها وخدمة الإنسان في بسيطتها.

جميعنا مع الوقوف مع الإنسان المظلوم شرقا وغربا، أيّا كان دينه وتوجهه، وجميعنا ضدّ الجماعات المتطرّفة باسم الدّين، وضد استنساخ صراعات ماضويّة لتدميرّ شعوب العالم بسببها، وخراب أوطان بتأويلاتها، كانت هندوسيّة ضدّ المسلمين في الهند، أو بوذيّة ضدّ الروهينجا في ميانمار، أو صهيونيّة باسم اليهوديّة والمسيحيّة في فلسطين، أو كانت إسلاميّة في سوريّة والعراق وغيرها، أو حتّى كانت لا دينيّة، أو باسم الفلسفات المعاصرة.

نحن مع الإنسان كإنسان، له ذاتيّته وقيمته باعتبار كرامته الوجوديّة، وليس باعتبار انتماءاته اللّاحقة، وهذا لا يتحقّق بالشّعارات، وإنّما بالدّراسات العقلانيّة، الّتي تدرس القضايا بعمق وفق مؤسّسات وقراءات بحثيّة، لا وفق انطباعات أو رؤى قاصرة، أو شعارات وخطابات وأغاني وجدانيّة، هذا يجعلنا أن ننتقل من دائرة الدّمار إلى دائرة الإحياء، ومن ضيق الماضي إلى سعة الحاضر، ومن أنانيّة الذّات إلى الرّحمة للعالمين، وأن نتجاوز أن نكون دوما ردّات فعل تحرّكها العواطف إلى أذن خير يحرّكه العقل والتّعقل والبحث والنّظر والتّأمل والتّأني والتّخطيط، لنخرج بهذا جيلا محبّا للحياة والبناء والمعرفة والإصلاح في الأرض، لا منقادا لهذا وذاك بدون تعقّل ونظر.

أخبار ذات صلة

0 تعليق