من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عندما يتصف المولى عز وجل بصفة من صفات الأفعال وتكون بصيغة المبالغة، فإنه يدل على حبه لهذه الصفة، وما أحرى العباد أن يتصفوا بصفات الأفعال لله عز وجل بما يتناسب مع أوامره تقربا إليه لينالوا رضاه، فلو أتينا إلى اسم من الأسماء الحسنى وهو "الستير" وهو يدل على صفة فعله للمولى سبحانه وتعالى، فإننا نجدها وردت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل حييٌّ ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر".

وبما أن الستر يعني الغطاء والإخفاء، فإن هنالك سترا ماديا محسوسا، وهو أن يستر الإنسان ما أمره الله بستره من جسده، وأما الستر المعنوي فإنه يتعلق بستر أسرار الناس وعدم تتبع عوراتهم وعدم فضحهم، فقد ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"، ولو تأملنا هذا المفهوم بعمق لوجدنا أنه مفهوم عظيم يدل على مكارم الأخلاق ويدعو إلى النبل في التعامل مع العباد.

فالله عز وجل خلق الإنسان وجعله مسيرا في بعض الأعمال، في حين جعله مخيرا في أعمال أخرى، ولكن أرسل له رسلا ليخبروه عما يحبه ربنا ويرضاه من أعمال العباد، وأمره بأوامر تعبدية، ونهاه عن فعل الأخطاء، ولكن كرم الله البالغ، فجعل باب التوبة مفتوحا لمن أخطأ، فهو خلقهم وهو أعلم بهم، وأعلم بصفاتهم، وجعل في تركيبة خلقهم، من الشهوات والملذات، التي قد تجعل الإنسان يخطئ ويعود إلى ربه ويصلح أعماله، ويستغفر ويتوب.

فلذلك أمرنا الله بالستر على أنفسنا، وألا نخبر الناس ونشيع بينهم ما أجرمنا في حق أنفسنا وفي حق الله فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه". وما أكثرهم في هذا الزمن التي كثرت فيه الفتن، وأصبح الوصول إلى المعصية متاحا وممكنا، والعجب كل العجب ممن يقع في هذه القاذورات من العاصي وكبائر الذنوب، ويأتي أمام الناس ليتحدث عما اقترفه من كبائر بكل وقاحة وصفاقة وكأن ما فعله يفتخر به، وما هذا إلا من فساد الفطرة، وسواد القلب الذي غلب عليه "الران" جراء ما طغى في احتقاب كبائر الذنوب.

فالله لا يحب أن تشيع الفاحشة في المجتمع، ولا يرضى أن يصبح أمر الفواحش عاديا في المجتمع المسلم، ولذلك أمر الناس بالستر، فالله عز وجل يتوعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع بالعذاب الأليم فهو يقول عز من قائل: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". فالله عز وجل لم يكتف بادخار العذاب الأليم لهم في الآخرة، بل وعجل لهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.

كما أمرنا الله عز وجل أن نصلح من ذواتنا ونقوم بتزكيتها وتربيتها، وأن نشتغل بإصلاح أنفسنا، وحذرنا من تتبع عورات الآخرين، ومحاولة معرفة أسرارهم، والتعدي على خصوصياتهم، وتتبع أخطائهم، وفضحهم بها وإشهارها بين أفراد المجتمع، ووصمهم بالأوصاف المنكرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: "من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته". فمن منا لا يوجد عنده أخطاء يحاول إصلاحها، ولولا ستر الله على الناس لاستحى الناس أن يخرجوا من بيوتهم، وكما يقول الشاعر:

لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ

فكلك عوراتٌ وللناسِ ألسنُ

وقد ستر الله أخطاء العباد علما منه أن بعضهم سيعود إليه، ويفتح معه صفحة ناصعة البياض، إلا أنه لو علم الناس منه أخطاءه لعايروه بها ولألصقوا عليه الصفات والألقاب المرتبطة بالأفعال القبيحة، وأصبح مسبة في ألسنهم، وسيذكرونه بتلك الصفات حتى لو تاب واهتدى وأصلح، فالستر يشجع المخطئين على التوبة والرجوع إلى الله، وأن تكون علاقاتهم المجتمعية معينة على الطاعة وفعل الأعمال الصالحة.

كما أن للستر دور مهم في حفظ القيم الأخلاقية والإنسانية، وألا تتلوث قلوب أفراد المجتمع على بعضهم البعض، ولكي تسود الصفات والأعمال الخيرة بين الناس، وأن تموت أعمال المنكر والباطل بالسكوت عنها، وعدم تداولها كأدات للتندر، ووسيلة للغيبة والنميمة في المجتمع المسلم.

وعلى الوالدين مهمة كبيرة في تعليم أبنائهم منذ نعومة أظفارهم قيمة الستر، كسلوك الأبناء مع بعضهم، فينصح الإخوة ألا يشو ببعضهم البعض، وألا يتتبعوا أخطاء بعضهم ليأتوا فيخبروا بها أبويهم، ويرشدوهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الكرام ألا يخبروه بأخطاء بعضهم البعض، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يبلغَنَّ أحدٌ مِنكم عن أحدٍ من أصحابي شيئًا ، فإنِّي أحبُّ أن أخرجَ إليهم وأنا سليمُ الصدرِ". كما أمرنا الله في كتابه العزيز ألا نتجسس ولا نتحسس ولا نغتاب بعضنا البعض، فقال تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ".

ومما يلاحظ اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أحد أكبر المستنقعات لكشف خصوصيات الناس، وتتبع فضائحهم، فأصبح الكثير من أصحاب المعاصي يجاهرون بمعاصيهم، ويذيعونها علنا، وأصبح الناس يتلقفونها وينشرونها في مجموعاتهم الإلكترونية، ولو راجع الإنسان نفسه، هل يرضى الله لعباده، أن يتتبع الناس حرمات البيوت حتى وإن أظهرها أصحابها، لوجد أنه في مزلق خفي ربما يرتب عليه إثما عظيما بتداول فضائح الناس، وهو داخل في الوعيد الشديد لهذا الأمر، وسوف يلقى الله وعليه آثام فعله وآثام من قام بتحويل كل صورة أو مقطع أرسله في تلك المجموعات الإلكترونية، فعلى المسلم أن يكون حذرا في تعامله الافتراضي مع هذه الوسائل، كما يجب عليه أن يكون حذرا في الواقع الاجتماعي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق