الاقتصاد الدائري (Circular Economy) يعمل على استخدام الموارد الطبيعية والمنتجات والسلع وتدويرها ليتم استخدامها أو الانتفاع بها أكثر من مرة، حيث يساعد ذلك في استدامة النمو الاقتصادي مع الحد من التلوث. يعَد «والتر ستهيل» المهندس والخبير الاقتصادي ليس الوحيد الذي يُنسب إليه الفضل في بروز مصطلح «الاقتصاد الدائري»، إلا أن تقريره للمفوضية الأوروبية في 1976 المتضمن رؤيته للاقتصاد الذي يعطي الأولوية لكفاءة الموارد وطول عمر المنتج والحد من النفايات، بداية ظهور الاهتمام بالاقتصاد الدائري. يشجع الاقتصاد الدائري أصحاب الأعمال والحكومات والأفراد على تعظيم الاستفادة من الموارد التي يمتلكونها سواء كانت تلك الموارد طبيعية أو من صنع الآلات أو مما يمتلكه الإنسان. وتتعدد مفاهيم الاقتصاد الدائري ومجالاته فيدخل فيه الاقتصاد الأخضر، والطاقة النظيفة والحياد الصفري. ونظرا لذلك التعدد، نحاول تسليط الضوء على مساهمة الأفراد في الاقتصاد الدائري والتوعية بأهميته نظرا لما يعود عليهم من المنافع المباشرة وغير المباشرة وأيضا لأن الأفراد مدعوون ليكون لهم دور فاعل في المحافظة على استدامة الموارد الطبيعية.
السوق المحلي حاله كحال الأسواق الأخرى في المنطقة يعاني من الإغراق من السلع والمنتجات الاستهلاكية والكمالية المستوردة ذات العمر الافتراضي القصير والتي تكون عادة قليلة الكفاءة وبأسعار في متناول الجميع. وبالتالي، الأفراد بعد اقتنائهم لهذه السلع يضطرون بعد مدة ليست طويلة إلى إصلاحها -بشكل مستمر- مما يتكبدون مصاريف إضافية أو التوجه نحو استبدلها والتخلص منها لتصبح نفايات. ما يميز تلك السلع والمنتجات بأنها تُنتج بكميات كبيرة الأمر الذي يؤدي إلى التأثير بشكل مباشر على استدامة المواد الخام التي تدخل في إنتاجها وتصنيعها نظرا لاستخدام تلك المواد بكميات كبيرة. وهذا يتنافى مع أسلوب الاقتصاد الدائري وهو تعظيم الاستفادة من السلع لجعلها ذات كفاءة وجودة عالية مع عمر افتراضي أطول.
هناك ممارسات يقوم بها بعض من أفراد المجتمع بدافع التكسب والرزق، ولكن في الحقيقة هي أفضل استخداما لمفهوم الاقتصاد الدائري. هذه الممارسات تكمن في السيارات التي تجوب -صباحا ومساء- بعض الأحياء السكنية بمحافظة مسقط بحثا عن المخلفات الصلبة ومنها الحديد والألمنيوم وما شابهها. تلك السيارات ينظر إليها الغالبية بأنها تعمل على إزعاج السكان -بعض الأحيان- كما أن أكثرهم لا يلقي لها بالا، ولكنها من أنجح طرق الاقتصاد الدائري بحيث إن ما يستغني عنه الأفراد من تلك المخلفات هي في الأساس ذات قيمة صناعية عالية للشركات التي تذهب إليها تلك المخلفات. بحيث تقوم بإعادة استخدامها بطرق تصنيعية ليتم إنتاج سلع ومنتجات منها، وبالتالي، يتم الحصول على قيمة مضافة من إعادة تدويرها مع تقليل الهدر في استخدام الموارد الطبيعية وتقليل التأثير البيئي في حال التخلص منها عن طريق التدوير. عليه ينبغي ألا ينظر إلى هؤلاء الأشخاص فقط من باب التصدق عليهم بما يتبقى من مخلفات المنازل أو أماكن العمل أو المزارع، ولكن يجب على أفراد المجتمع تشجيعهم لأنهم يقومون بعمل بيئي رائع يسهمون في استدامة الموارد الطبيعية وعدم الهدر في استخدامها.
المثال الآخر، هو ما تقوم به بعض جمعيات المجتمع المدني من تجميع ما يستغني عنه الأفراد من الملابس النظيفة والأثاث وأجهزة التكييف والغسالات الصالحة للاستخدام. بحيث يتم تجميع تلك السلع والمنتجات المستعملة لكي يستفيد منها أشخاص آخرون ليست لديهم المقدرة المالية على شراء الجديد منها. هذا التجميع والذي أساسه بدواعي الخير، فإنه أيضا يأتي ضمن الاقتصاد الدائري حيث إن تلك السلع والمنتجات يستفاد منها مرة أخرى وبالتالي، تتحول إلى قيمة مضافة بعد إجراء قليل من التحسينات والتصليحات لكيلا تكون عبئا لمن يحصل عليها وإنما تعود عليهم بالنفع. وبالتالي، هذا التوجه الذي ظهر ينتشر في أغلب المحافظات مع تبنّي بعض الجمعيات هذا الأسلوب في توزيع ما يستغنى عنه الأفراد، ليستفيد أشخاص آخرون يجب أن يلاقى بالتكاتف من أفراد المجتمع وأن يسهموا في أن تكون تلك السلع والمنتجات المجمعة في صورة جيدة للتسهيل على تلك الجمعيات من الاستفادة منها بطريقة اقتصادية مستدامة. هذا النوع من التجميع يطيل المدة الزمنية للاستفادة من تلك السلع وهي أحد نماذج الاقتصادي الدائري.
عليه، فإن أفراد المجتمع هم الأساس في نجاح مفهوم الاقتصاد الدائري، من حيث ترشيد الاستهلاك في كل شيء يمتلكونه ويأكلونه. حيث تعَد دول الخليج العربية من أكثر دول العالم هدرا للطعام ويرجع ذلك لأسباب تتعلق بسهولة الحصول على كميات كبيرة من الغذاء مع الأسعار المناسبة مقارنة بالدول الأخرى، وأيضا غياب الوعي المجتمعي لخطورة هدر الطعام. كما أن تقرير الأمم المتحدة يوضح بأن الناس يهدرون نحو مليار طن من الطعام سنويا وأن المتوسط السنوي لما يهدره الفرد يبلغ (74) كيلوجراما من الطعام سنويا. أيضا مسألة هدر الطعام ليست فقط مشكلة مجتمعية واقتصادية، وإنما أيضا تؤثر في استدامة الموارد الطبيعية التي تدخل في إنتاج وتجهيز الطعام سواء الذي يتم إعداده في المنازل أو قطاع الفنادق والترفيه أو في المناسبات الاجتماعية. أيضا تكمن المشكلة في أن براميل القمامة تصل لدرجة التخمة من بقايا مخلفات الطعام، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة تكاليف التخلص من تلك النفايات وزيادة معدل دوران نقلها إلى المرادم الهندسية للتعامل معه بطريقة صحية سليمة. تجدر الإشارة إلى أن هناك مبادرة عمانية تستحق الإشادة وهي «بنك الطعام العماني» والذي بدأ عمله في (2021) بتجميع ما يتبقى من أكل صحي يأتي من الأفراد والجهات المتعاونة، لكي يتم توزيعه على الأسرة المستحقة. مثل هذه المبادرات يجب أن تجد صدى من الأفراد أولا ومن جميع قطاعات الدولة بالتعاون مع بنك الطعام العماني لأنه يقوم بمبادرة نوعية في تطبيق الاقتصاد الدائري، حيث تمكن من التعامل مع ما يزيد على (38) طنا من «الأكل المطبوخ» وتوزيعه على المستحقين.
وبالتالي، هناك حاجة من الجهات المختصة بالبلديات في جميع محافظات سلطنة عمان أو الشركات الموكل إليها نقل وتجميع مخلفات براميل القمامة، بعمل خطة استراتيجية على أساسها يتم وضع صناديق صغيرة قريبة من المنازل كما هو معمول به في أغلب دول العالم ومنها بريطانيا، بحيث تخصص صناديق لمخلفات الطعام وصناديق للمخلفات التي من الممكن إعادة تدويرها أو تصنيعها على سبيل، القطع البلاستيكية والأخشاب. تبنّي مثل هذه المبادرات وإن كانت مكلفة في البداية، ولكنها تساعد أفراد المجتمع بطريقة سهلة من تجميع تلك المخلفات بوضعها في الصناديق المخصصة لذلك. حيث إن هناك كميات هائلة من المواد البلاستيكية يتم رمها مع بقايا الطعام، هذه المواد بها قيمة مضافة في حال تم تجميعها بشكل جيد وتم تدويرها بشكل سليم، لأنها تعمل على تقليل هدر الموارد الطبيعية للمواد الداخلة في تصنيعها.
الاقتصاد الدائري ليس نظرية تقبل الصح أو الخطأ، وإنما هي رسالة إنسانية يجب أن تجد صدى من أفراد المجتمع ليتم تطبيق مفاهيمه بشكل سليم. وبالتالي، غرس ثقافة الاستفادة المثلى من المقتنيات الشخصية بالمنازل لأطول مدة ممكنة مع إعادة تدوير المنتجات التي يستغنى عنها الفرد لا تتولد في ليلة وضحاها، وإنما عن طريق تكثيف حملات التوعية المجتمعية وعن طريق النشرات والرسائل المجتمعية للأفراد بكيفية إعادة استخدام أية مخلفات يتم الاستغناء عنها بطريقة مستدامة، مع تعميم هذه التوعية لتشمل جميع المحافظات. أيضا تضمين مفاهيم الاقتصاد الدائري ضمن الجهود المبذولة في اختيار مسابقات الأحياء الصحية بالمحافظات بحيث لا ينظر إلى الحي الصحي من حيث النظافة وترتيب المكان وجمال الشوارع والمتنزهات وإنما من تحويل نظرة أفراد المجتمع أو القاطنين بتلك الأحياء الصحية ليكونوا مساهمين في الجهود الحكومية نحو استدامة الموارد عن طريق تدويرها واستخدامها -بشكل أفضل- وبعمر افتراضي أطول.
مبادرات الاقتصاد الدائري قد تكون على مستوى الفرد نفسه ومؤسسات المجتمع المدني والجهات الحكومية والخاصة. وهناك اهتمام من الجهات الحكومية لتطبيق مبادرات الاقتصاد الدائري ليكون نمطا وسلوكا في الحياة. وبالتالي، أفراد المجتمع ينبغي أن يتغير سلوكهم ليتحول ذلك السلوك إلى ترشيد في الاستهلاك وتجنبا لصور البذخ والهدر في استهلاكهم اليومي. كما أن اقتناء السلع والمنتجات والكماليات يكون بعمر افتراضي أطول، وفي حال التخلص من تلك المقتنيات أن يكون عن طريق تدويرها بطريقة سليمة تسهم في استدامة الموارد الطبيعية.
د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس
0 تعليق