ترجمة: أحمد شافعي
عندي قاعدة شخصية لتقييم اضطراب بلاد الشرق الأوسط المحتمل. ويأتي في نوعين: بلاد تنفجر إلى الداخل وبلاد تنفجر إلى الخارج. أي بلاد تنهار فيها السيطرة المركزية فيتهاوى حطام الأعمدة داخل الحدود، وبلاد حينما تنهار فيها السيطرة المركزية يتهاوى حطام الأعمدة فيمتد ركامه السياسي في كل حدب وصوب.
وما من بلد في الشرق الأوسط ينفجر إلى الخارج أكثر من سوريا. فما يحدث في سوريا لن يبقى في سوريا.
ذلك أن سوريا تمثل في آن واحد حجر زاوية في الشرق الأوسط وصورة مصغرة له. فبوصفها حجر زاوية، ما إن تتداعى، حتى تستشري الآثار في كل اتجاه.
وبوصفها صورة مصغرة ـ بمن فيها من سنة وشيعة وعلويين وأكراد ومسيحيين ودروز ـ فحينما تضعف السيطرة المركزية يكون ذلك مصدر انعدام أمن لكل طائفة، فغالبا ما تطلب المساعدة من الخارج. وذلك أيضا مصدر فرصة لكل قوة إقليمية، فكثيرا ما تمتد تلك القوى إلى الداخل السوري لكي توجه سوريا في اتجاهها. ولقد كان الأمر، تاريخيا، يقتضي وجود قائد حديدي القبضة في دمشق لإبقاء سوريا تحت السيطرة في الداخل ولردع القوى الإقليمية الراغبة في السيطرة من الخارج.
وبسبب مركزية سوريا، قد يكون للتغيير الإيجابي هناك إشعاعه أيضا في كل اتجاه. وذلك ما يمضي بي إلى الغرض من هذا المقال، وهو أن يكون مذكرة إلى المرشح لوزارة الخارجية مارك روبيو: لعلك لم تتول بعد، لكن إذا ما تأكد هذا، فإن أول تحد لك بوصفك الدبلوماسي الأول في فريق الرئيس ترامب قد يتمثل في إقناعه بالعدول عن خطاب الانعزالية الذي يشتهر به ترامب ويقوم على أن «أمريكا أولا» وعلى فكرة عدم اليقين من الرغبة في البقاء في الناتو والتساؤل عن جدوى الحلفاء وعمن يكترث لأمر البلاد المنهارة، فتستطيع أن تساعد ـ إذا ما أسعفتني الجرأة وقلتهاـ في بناء سوريا.
لأن إطاحة «المعارضين» السوريين بالرئيس بشار الأسد تمثل واحدا من أكبر التحديات التي يحتمل أن تكون إيجابية ومؤثرة في قواعد اللعبة في الشرق الأوسط منذ أكثر من خمسة وأربعين عاما. وشأن الفرص في مجال السياسة الخارجية أنها قد تأتي من العدم تماما، والرؤساء العظماء هم الذين ينتهزون هذه الفرص حتى لو استدعت اعترافهم بأنهم كانوا مخطئين في تقديراتهم.
إنصافا لترامب، حينما لاحت فرصة الاتفاقات الإبراهيمية سنة 2020، ولاحت هي الأخرى من العدم، انتهزها الرجل وساعد في صياغة التطبيع بين إسرائيل وأربع دول عربية، فكان ذلك في صالح المنطقة وفي صالح الولايات المتحدة. واللحظة الآن مماثلة. فرص النجاح منخفضة، والمردود قد يكون هائلا، والمخاطرة بالنسبة لأمريكا غير شديدة الارتفاع، لكنها سوف تقتضي من القيادة الأمريكية الكثيفة أكثر مما اقتضته الاتفاقات الإبراهيمية.
وفهما للسبب، عليّ أن أرجع بك إلى عام 2003. لقد كان لغزو الولايات المتحدة للعراق في ظل حكم الرئيس جورج دبليو بوش هدفان. أحدهما التخلص من أسلحة الدمار الشامل التي تبين أنها أكذوبة. والثاني، الذي دعمته أنا، هدف طموح لكنه في النهاية مستحيل: وهو إحلال ديمقراطية تعددية متعددة الأعراق في عاصمة عربية عظيمة ـ أي بغداد ـ بدلا من صدام حسين، على أمل أن يكون هذا مثالا في قلب العالم العربي يمكن أن ينتشر ويساعد في علاج الأمراض التي أدت إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وأصف هذا الهدف بـ«المستحيل» لأنه من غير الممكن مثلما تعلمنا أن تفرض الديمقراطية من أعلى إلى أسفل ومن الخارج إلى الداخل. إذ لا بد أن تنمو عضويا من القاع إلى القمة.
في العراق، كانت القوات الأمريكية بالأساس هي التي أوقعت تمثال صدام حسين في بغداد، وليس العراقيين، حتى لو أن كثيرا منهم استمتعوا بمشاهدة سقوطه. وفي النهاية، أنتج العراقيون ديمقراطيتهم الدستورية القائمة على اقتسام السلطة، ولكنها تترنح على شفا حالة الدولة الفاشلة، وهي مخترقة بعمق من العملاء والنفوذ الإيراني فضلا عن الفساد الداخلي. وفي حين أن العراق أجرى ستة انتخابات عادلة إلى حد كبير منذ الغزو الأمريكي الذي أطاح بصدام سنة 2003، فإن البرلمان عديد الأحزاب الذي أفرزته تلك الانتخابات خاضع لسيطرة أحزاب أساسها الطائفة والعرق، لا روح المواطنة العراقية الحقة القادرة بما لها من قوة واتساع على مقاومة إيران.
ويعاني العراق أيضا منذ عام 2003، لأن سوريا وإيران قد فعلا كل ما في وسعهما لضمان عدم وجود مثال ديمقراطي لائق في بغداد قد يمثل إلهاما يحتذيه شعباهما. ولكن في نهاية المطاف، انتشر الربيع العربي الذي بدأ في تونس ومصر إلى سوريا في عام 2011 ـ بلا غزو أمريكي فعليا ـ ولكن الأسد كان على أتم استعداد لأن يقتل مئات الآلاف من شعبه ويشرد الملايين في الخارج لكي يبقى في السلطة ـ وذلك حتى نهاية الأسبوع الماضي.
والسؤال الضخم الذي يدور في عقلي هو هذا: هل ينال الشرق الأوسط فرصة أخرى لظهور حكم تعددي توافقي في عاصمة عربية عظيمة أخرى هي دمشق، ولكنه يظهر في هذه المرة مدفوعا من الشعب نفسه، وليس من أي قوة أجنبية؟ لو استطاع السوريون على مدى السنين القادمة أن يشقوا طريقهم من القاع إلى القمة ليعيشوا معا في مجتمع تعددي، بوصفهم مواطنين، لا طوائف فقط، يتلاحمون بقوة توافق طوعي لا بقوة قبضة حديدية استبدادية، فسوف يشيع هذا إلى العراق ولبنان وإيران وليبيا والسودان وكل مكان.
ومن شأن هذا أن يكون الحدث الأكثر إيجابية في الشرق الأوسط منذ أن ركب أنور السادات الطائرة وذهب إلى إسرائيل لإبرام السلام سنة 1977، ومن شأنه أن يكون الحدث الأهم في السياسة العربية الحديثة.
لست بحاجة إلى أي محاضرة في مدى استبعاد هذا. فقد عشت الحرب الأهلية اللبنانية لأكثر من أربع سنوات وكتبت كثيرا من العراق. والنهاية السعيدة بعيدة الاحتمال في سوريا، لكن المردود هائل بالنسبة للشعب السوري والمنطقة برمتها. وخلافا لغزو الولايات المتحدة للعراق، سوف تكون التكلفة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها أموالا قليلة وقوات قليلة لمحاولة المساعدة.
لكن هذا لن يحدث بغير مساعدة وقيادة أمريكية وبعض الدبلوماسية الثابتة الحازمة المستعدة للمجازفة بالفشل ولفهم أن الإهمال الحميد قد يكبد حلفاءنا تكاليف هائلة. فالتنافس داخل سوريا ـ وعليها من أطراف خارجية ـ سوف ينتشر في المنطقة كلها. ستكون حربا أبدية تفتح الطريق لمعاودة ظهور داعش وقد تزعزع بسهولة استقرار الديمقراطية الهشة في العراق والملكية في الأردن، وتجعل إسرائيل تعلق في سوريا ـ بمعنى أن يسيطر سبعة ملايين يهودي على كامل غزة وأجزاء من لبنان وسوريا، وكذلك على إسرائيل والضفة الغربية. فتجد إسرائيل نفسها مرهقة تماما وبحاجة إلى مليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية الإضافية.
لا أعرف ماذا يدور في عقل أبو محمد الجولاني أو قلبه. لقد قرأت أنه قضى سنين يحاول تغيير صورته، مدينا صلاته القديمة بالقاعدة وطارحا نفسه بوصفه زعيما يدعم التعددية والتسامح. وأعلم أننا يجب أن نفعل كل ما في وسعنا من الخارج لمساعدة الجولاني والضغط عليه وتحفيزه ليستقيم مع هذه الصورة. وقد سرني بروز وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى الواجهة بتصريحه في العاشر من ديسمبر:
«إن الولايات المتحدة تجدد تأكيد دعمها الكامل للتحول السياسي السوري قيادةً وامتلاكا. ويجب أن تؤدي عملية التحول هذه إلى حكم مضمون احتوائي غير طائفي... ولا بد لعملية التحول والحكم الجديد أن تلتزم التزامات واضحة باحترام كامل لحقوق الأقليات وتيسير تدفق المساعدات الإنسانية لكل من يحتاج إليها، وتمنع استغلال سوريا فلا تكون قاعدة للإرهاب أو مصدر تهديد لجيرانها».
أعتقد أن المشكلة السورية سوف تكون صورة مصغرة للتحدي الأساسي الذي سوف يواجهه فريق سياسة ترامب الخارجية على المستوى العالمي، وهو كيفية إدارة الضعف وليس القوة. كيفية إدارة دول تسقط فيهدد انهيارها العالم، وليس دولا صاعدة تهدد العالم بقوتها. فباستثناء الصين، سوف تكون الدول الضعيفة لا الدول القوية هي التي تزعج أمريكا وحلفاءها، ومن ثم فإن التحدي المركزي لفريق ترامب سوف يتمثل في كيفية بناء الدول أو إصلاح الدول بتكلفة يتقبلها الشعب الأمريكي.
ومثلما قال الكاتب الاقتصادي ديفيد روزنبرج في صحيفة ها آرتس في ما يتعلق بسوريا: «سوف تكون تكلفة إعادة إعمار سوريا سبعة أمثال الاقتصاد السوري كله في الأقل، وسوف يقتضي العمل نفسه نوعا من الخبرة التقنية لا يمكن إلا لدول قليلة أن تقدمه... والمشكلة هي أن سوريا مفلسة، ومن المستبعد أن يمدها ترامب بمساعدة مالية ذات شأن. وهي أيضا خاضعة لعقوبات غربية سيكون على ترامب أن يرفعها... ولكي تتعافى سوريا ويعاد بناؤها، سوف يتعين أن يتوافر حظ سعيد وقيادة جيدة، ووحدة وطنية وإرادة دولية جيدة».
بوسع ترامب أن يبتعد عن سوريا، مثلما حاول أن يفعل ذلك من قبل، حينما كان رئيسا، ويشهد الشرق الأوسط إذ يتفكك تماما ويقول ما قال نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس ذات مرة بحق أوكرانيا: «أنا فعلا لا أكترث بما يجري».
أو بوسع ترامب أن يعترف بأن السبيل الوحيد الذي يمكننا أن نساعد سوريا به في الانعطاف إلى وجهة إيجابية بثمن مقبول هو أن نقيم تحالفا مع حلفائنا في الناتو واليابان وكوريا وأستراليا ـ وربما الصين والهند ـ سعيا إلى دفع السوريين إلى النهوض ومنحهم أفضل فرصة ممكنة للنجاح.
لقد ابتعد الرئيس بايدن عن أفغانستان بعيد توليه السلطة، وكان ذلك قبيحا منه ومؤسفا للأفغان، لكن سوريا غير أفغانستان.
فأفغانستان تنفجر في الداخل، وسوريا تنفجر في الخارج.
توماس فريدمان كاتب رأي في الشؤون الخارجية في نيويورك تايمز منذ 1981
خدمة نيويورك تايمز
0 تعليق