لغتنا العربية لبُّ الهوية ومَعدِن الحضارة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كلما مررت على «معهد السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها»، وبينها وبين منزلي في «مَنَح» مسافة خطوات، ومرمى إكليل من القُبُلات، أشعر في داخلي بفخر واعتزاز، فأنا ابن اللغة التي يتعلمها طلاب المعهد، التقوا في صفوفه من مدن وعواصم أجنبية شتى، ورأوا من الخير أن يتعلموا العربية، آملين أن يتحدثوا بها في المحافل، ويترجموا لغاتهم الأم إلى العربية، فهل سيكون منهم العالم اللغوي مثلما كان الأوائل، وهل قادتهم أقدارهم، ليعيشوا داخل رحاب معهد تعليم العربية، ليصبحوا بعد حين من الزَّمان، من الناطقين بها في أوطانهم؟

أم هو الشغف بلغة الضاد، التي تأخذ محاسنها بمجامع القلوب، وتملأ العقول محبة في جمالها، يعبِّر عن هذا المعنى، البيت الشعري لأحمد شوقي: (إن الذي ملأ اللغات محاسنا.. جعل الجمال وسرَّه في الضَّاد)، وهل سر جمال العربية كما قال شوقي، في «الضَّاد» ذاته، أم فيما يأتلف معه من حروف، لتصبح الكلمة أشبه بالدرَّة والجوهرة؟، وكأنما كتبه شوقي ليكون عنوانًا لاحتفالية قادمة بعد سنين من وفاته، احتفالية «اليوم العالمي للغة العربية»، الثامن عشر من شهر ديسمبر من كل عام، لعل شوقي كشاعر مطبوع، وجد في لغة الضَّاد، ما لم يجده صديق عمره حافظ إبراهيم، حين كتب قصيدة على لسان لغة الضاد ذاتها: (رَجَعْتُ لِنَفسِي فاتَّهَمْتُ حَصَاتِي/ وَنادَيْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حَياتِي)، (رَمُونِي بعُقْمٍ في الشَّبابِ وَليْتَنِي/ عَقِمْتُ فلَمْ أجْزَعْ لِقَوْلِ عِداتِي).

ويبدو أن «شاعر النيل» كتب قصيدته تلك على لسان العربية، في زمن كانت الأمية القرائية تسود بين الناس، في كل بلدان الوطن العربي، فلم يعرف الآباء القراءة والكتابة، إلا في عدد القليل منهم، من تعلم في مدارس تحفيظ القرآن، وقرأ على يد شيخ، وفي عُمان لم يتوقف تعليم العربية، ففي الزمن الماضي ظهرت في كل قرية مدرسة لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، مكانها بين مسجد أو تحت ظلال الشجر، أو مبنى خاص بها، فخرَّجت جيلا قادرًا على القراءة والكتابة، وأصبح منهم الأدباء والشعراء والفقهاء.

ومع أن حرف الضَّاد نادر، لا يستحسنه الشعراء في تقفية قصائدهم، لصعوبة أن يجدوا قافية تنتهي به، إلا للمطبوعين منهم، لكن من الشعراء الفحول من أبدع في كتابة قصائد ضاديَّة القافية، من أشهرها «ضاديَّة عمارة بن عقيل»، بالقافية المرفوعة: (عَصْرُ الشَّبيبةِ ناضِرٌ غَضُّ/ فيه يُنال اللينُ والخَفْضُ)، (مثل الشَّبيبةِ كالرَّبيعِ إذا/ ما جيْدَ فاخْضَرَّتْ له الأرْضُ).

وإذا ما تباركنا بالمصحف الشريف، وشممنا أريج حروفه الإلهية، فلن نجد حرف الضاد ضمن الحروف المقَّطَّعة، التي تظهر في فواتح 29 سورة من سور القرآن، لتبدو تلك الفواتح أشبه بالمفاتيح السرية لعالم السور الكريمة، لكن لن نجد من بينها حرف «الضَّاد»، إلا إن إشراقاته تظهر في سورة «الضُّحَى»، حيث شمس النهار تبسط دفئها على الأرض، وتجعل من وقت الضُّحَى، دافئًا ومشرقًا وناعمًا، كضحوات الشتاء التي ننعم بها هذه الأيام، وكأنَّ رَسْم حرف الضَّاد في كلمة «الضُّحَى»، جعل منه وقتًا نضِرًا بالحياة، ولو حذفنا هذا الحرف، واستبدلناه بآخر من حروف العربية، لما ظهر للكلمة جمال، مثلما يظهر في ائتلاف الضاد مع الحاء والألف المقصورة: «الضُّحَى»، منسابًا في سلامة نطقه، وسلاسة إحساسه، وسناء جماله.

حاولت أن أرى اللغة العربية في الحياة المعاصرة الآن، فرأيتها تنمو كشجرة وارفة، وتطرح ثمرًا طيبَا، وحسبتها بين اللغات فاكهة أُنْزلَتْ من الجَنَّة، ولمحتها في صفحات الكتب التي صدرت خلال قرن الزمان، وما تزال تتصدر أحاديثنا ومقالاتنا كلما كتبنا عن العربية، والحقيقة أن العربية تستعيد حيويتها بين جيل وآخر، وتزداد انتشارًا، بدخول مجموعات هائلة من الناس إلى الإسلام، وتعلمهم للغة العربية، وقاموسها يكبر يومًا بعد آخر، فهذه الكتب التي ترزح بها المكتبات، قديمها وجديدها، ما كتبت إلا بالعربية، وما تزال العربية لسانًا مبينًا يُفصِحُ عن مكنونات الإنسان العربي والمستعرب، ويصور بها مشاعره، فيكتب الشعر والرواية وكتب الأدب الكثيرة، ويوثق بها أفكاره وفلسفته ومعارفه.

وأبدت السلطنة اهتمامًا بتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، بافتتاح معهد السلطان قابوس بمنح، ومنذ تأسيس هذه المعهد تحت إشراف مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، التابع لديوان البلاط السلطاني، خرَّج دفعات كثيرة من الدارسين، منذ افتتاحه في عام 2012م، وفي جامعة نزوى أوجد قسم لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، يحمل اسم: «معهد الضاد لتعليم العربية للناطقين بغيرها»، أنشئ عام 2014م، ووضعت له الجامعة منهجا دراسيًا، وهناك معاهد أخرى في سلطنة عمان، تسير على ذات النهج، وتطعم شهد العربية لسان من يتذوَّقها.

وستظل العربية حية وتتمتع بالحيوية، ما بقي القرآن الكريم، والشعر العربي، وأمهات الكتب، تتناقل من جيل إلى آخر، فقد ترك المؤلفون الأوائل عناوين كثيرة من المعاجم والقواميس، ودواوين الشعر، وكُتب الأدب والنقد وغريب اللغة، ما يجعل العربية من اللغات الخالدة، فهي لبُّ الهوية ومَعدِن الحضارة، فيا لغتنا العربية، لا تجلدي ذاتك، وتتهمي «حَصَاتِك» بالتقصير، فعقلك يبدع عِلمًا وأدبًا وفكرًا.

وإن كانت احتفالية اليوم العالمي للغة العربية، تكريمًا من منظمة «اليونسكو» وهذا العام رفعت شعار: «اللغة العربية والذكاء الاصطناعي»، فهل أرادت «اليونسكو» أن تدق ناقوس الخطر، أم كما ورد في بيانها المنشور: (استكشاف سُبل سد هذه الفجوة الرقمية، عن طريق الذكاء الاصطناعي، وتعزيز حضور اللغة العربية على شبكة الإنترنت، ودعم الابتكار)!

فما أحرانا أن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية في محيطنا الأسري، بتشجيع أبنائنا على القراءة، ونجرِّب معهم تذوق قصيدة من الشعر العربي، حتى تعلق كلماتها في الأذهان، وتحيا معانيها في المُهَج، منذ شعر المعلقات في عصر ما قبل التدوين، وحتى آخر قصيدة يكتبها شاعر موهوب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق