"البارودي" بشير نهضة الشعر العربي الحديث - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مرفأ قراءة...

(1)

ورثت حب الشاعر الأصيل محمود سامي البارودي، وشعره، والنظر إليه بإكبار حقيقي، من أساتذتي الأجلاء في كلية الآداب، بين أساتذة الأدب العربي القديم والحديث على السواء. كان مثيرًا للاهتمام ذلك الاحترام الكبير الذي يتحدث به المرحوم الدكتور جابر عصفور عن البارودي وشعره، وعن أثره الكبير والعميق والأصيل في "إحياء" الشعر العربي والتأسيس لنهضته الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد أن استعاد جزالته وفخامته وحكمته وموسيقاه وروحه العربية الأصيلة التي حيل بينها وبين المتأدبين و"الشعراء" -أو الناظمين إذا شئنا الدقة- في الثقافة العربية، خلال القرون الثلاثة السابقة على القرن التاسع عشر.

بهذا المعنى أدركنا نحن طلاب الأدب والنقد ودراسة الحركة الشعرية العربية الحديثة في بواكيرها، أن دور محمود سامي البارودي يتجاوز كثيرا ما كنا نعرفه أو نقرأ عنه باعتباره "رائد الشعر العربي الحديث" وباعتباره رأس مدرسة الإحياء والبعث "الكلاسيكية" التي مرت بأطوار ثلاثة أو عرفت بأعلام ثلاثة مثلوا محطاتها المفصلية: محمود سامي البارودي "المؤسس"، وأحمد شوقي الذي وصل إلى ذروة هذه المدرسة وارتقى إلى مصاف لم يبلغها أحد قبله، ثم حافظ إبراهيم الذي كان الاسم الملازم لشوقي، وقرينه في الإبداع الشعري، وما يكاد يذكر اسم أحدهما إلا ويلحق بالآخر!

وأتفق تماما مع من يرى محمود سامي البارودي (1839- 1904) الشاعر الكبير، واحدًا من الشخصيات الاستثنائية في تاريخ الشعر العربي الحديث. وهو لا يختلف عن غيره من الشخصيات الاستثنائية التي تقطع تواصلًا، وتؤسس تغيرًا واعدًا، واتجاهًا مغايرًا، في علاقة جدلية بالتاريخ.

فالشخصية الاستثنائية تأتي في لحظة متعينة من الزمن، كأنها على موعد مع القدر، لحظة هي مفرق فصول، ومسافة واصلة وفاصلة بين نقائض: الموت والميلاد، الذبول والنماء، الخريف والربيع، الليل والنهار، الانحدار والنهضة، التقليد والابتكار. هذه اللحظة الزمنية تصنع "الشخصية الاستثنائية" التي تنطلق بإمكانات الدفع فيها، وذلك بالقدر الذي تسهم به هذه "الشخصية الاستثنائية" في تفعيل طاقات الحياة المحتبسة في زمنها، فتصنع زمنها في التفاعل الذي يحيل مفرق الفصول إلى ابتداء جديد للفصول، مستبدلًا الميلاد بالموت، والنماء بالذبول، والربيع بالخريف، والنهار بالليل، والنهضة بالانحدار، والابتكار بالتقليد.

ولا تفعل الشخصية ذلك إلا لأنها تنحاز إلى كل الإمكانات الموجبة الواعدة في زمنها النوعي، مهما صغرت أو قُمعت، أو كُبِحَتْ، فتدفعها وتندفع معها، بادئة أول المسار المختلف الذي يغدو استهلالاً متجدداً وتحقيقاً لحلم البعث.

(2)

وحياة محمود سامي البارودي، وإنجازاته الشعرية، بوجهٍ خاص، تحقيق نموذجي لذلك، وتأكيد له، فقد جاء في اللحظة التاريخية التي كانت تجمع بين نقائض الثبات والتحول، لكنها اللحظة التي كانت تغلب فيها عناصر الثبات، وتتمطى فيها عناصر التحول كالبذور الدفينة التي تشرئب إلى النور، في حركتها من باطن الأرض إلى الشمس، فمنح البذور الدفينة قوة العزم، وحرارة الاندفاع، والشوق إلى رؤى المستقبل الواعد بالشمس والنسيم، مؤسسًا لعلاقة المخالفة والمنافسة التي وصلته بالشعراء العظام في تراثه، الشعراء الذين بدأ بهم ليمضي بعدهم، وعرف أسرار إبداعهم بالمحاكاة التي سرعان ما تحولت إلى "معارضة" فاتحة أبواب الاختلاف الذي يحقق الحضور، والحضور الذي ينتقل بالوجود من شروط الضرورة إلى أفق الحرية.

من قراءة سيرة البارودي، وما كتب عنه، بموازاة معرفة أدواره السياسية والعسكرية والنضالية، فيما عرف في التاريخ المصري والعربي الحديث بالثورة العرابية (1881)، عرفنا الدور الخطير الذي لعبه في اكتشاف المنابع الأصيلة للشعر العربي القديم، وعكوفه على روائع هذا الشعر العربي القديم عكوفًا اكتسب في تضاعيفه السليقة العربية الأصيلة، والروح العربي الصميم بكل مقوماته.

ومن الكتب التي أرخت له أو تتبعت سيرته، نراه في أوائل حياته، وكأنما انطبعت في نفسه أحاسيس "الفارس العربي القديم"، بكل ما اتصل بها من حماسة ووصف للحروب وحب وخمر وشعور بجمال الطبيعة. وتنفذ الشكوى والسياسة والمشاعر الوطنية إلى شعره منذ عمل ياورا بالقصر الخديوي، ويرسل زفراته وزفرات أمته نارًا متأججة.

ويُنفى مع زعماء الثورة العرابية إلى "سرنديب" فيشدو بغناء حزين مصورًا حنينه الدفين، باكيًا زوجه قرة عينه، ومن اخترهم الموت من أصدقائه بكاء يعتصره من قلبه، ويرفع بصره إلى السماء مبتهلًا لربه زاهدًا في متاع الدنيا الزائل. وقد لاحظ المرحوم الدكتور شوقي ضيف -في كتابه التأسيسي عنه- أنه كان يُعنى عناية شديدة بصقل شعره حتى تستوي نماذجه كاملة محكمة، وهو صقل جعله يكثر من تنقيحه، مدخلا فيه كثيرًا من التعديل والحذف والإضافة، حتى يصبح بناؤه وطيدًا وثيقًا ونسيجه متماسكا متينًا. ويقول في ذلك "نراه يضرم فيه روح العروبة بمحافظته على العناصر الشعرية القديمة، مع مد جنباتها وتحويرها تحويرًا بديعًا للتعبير عن وجدانه ووجدان قومه وما أثر في نفسه من الآداب الفارسية والتركية والمخترعات العصرية وأمجاد أمته التاريخية".

(3)

وكان من الضروري -والأمر كذلك- أن ينحاز البارودي إلى قوى التقدم ورموزه في عصره، ويبحث عن أشباهه من الذين اندفعوا بحركة النهضة في كل مجال فكانوا "زعماء الإصلاح" كما أطلق عليهم الرائد النهضوي العظيم أحمد أمين (1886-1954) في كتابه الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، أو دعاة التجديد ورواد التحديث: رموز النهضة وصانعيها في الإبداع (شعرًا ورواية ومسرحًا)، والفكر (مدنيًا ودينيًا) والمجتمع والسياسة.

هكذا، انحاز البارودي العسكري، ذو الأصل غير المصري (وغير العربي) إلى الضباط المصريين في نزوعهم الوطني، وسعيهم المناقض للاستبداد والظلم والتمييز العرقي، كما انحاز إلى دعاة العقل من مفكري عصره الذين أعادوا فتح أبواب الاجتهاد، مؤسسين استنارة الزمن المقبل، وأعان بشعره على نشر أفكار طليعة المجتمع المدني الذي لا يعرف التمييز الغليظ بين فئاته وطبقاته وطوائفه، جنبًا إلى جنب الدولة المدنية التي تعرف الدستور والبرلمان.

وكان أولًا في مجال "التجديد الشعري"، كما كان أقرانه أوائل في استحداث "فن الرواية"، و"فن المسرح" في اللحظة الزمنية نفسها للنهضة التي صنعها كل واحد في مجاله.

وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص، بتعبير المرحوم جابر عصفور، قلنا إن محمود سامي البارودي الذي تُوفي منذ مائة وعشرين عامًا بالتمام والكمال، كان بشير النهضة الإبداعية التي منحت الشعر العربي من حيوية التجدد ونضارة الإبداع ما أعاد للشعر العربي عافيته، وانطلق به في أفق من التغير الواعد، الذي أعاد للشعر علاقة الندية بالتراث الزاهر، وعلاقة التفاعل مع الحياة والأحياء، وعلاقة الإبداع مع الآداب المجاورة والمقاربة.

(4)

وكانت البداية هي الإيمان بقيمة "الشعر" التي لا يمكن اختزالها في الاحتراف، أو السعي وراء الأمراء، والتي تمتد لتشمل الوجود وما بعد الوجود، واصلة ما بين الثرى والثريا، مقترنة بالإنسان الذي يصنع مستقبله مستهديًا بالعقل الذي هو ميزان الرؤية، والخيال الذي هو مركبة الإبداع، والحرية التي يجاوز بها العقل والخيال شروط الضرورة وقيود التقليد. وأصل الحركة في ذلك كله، كما يفسرها جابر عصفور، هو الإحساس بالمكان الذي ينطلق منه الشعر ليعود إليه في الزمان الذي يتعامد على المكان في حركته التي تدفع الشعر، وتندفع برؤاه. ولذلك ظل الشاعر -عند البارودي- في المرتبة الأسمى بالقياس إلى أي وظيفة أو احترافٍ آخر، أو من في حكمه، فالشاعر هو صاحب الرؤية التي تصنع المستقبل وتدل عليه، وهو الرائي الذي يرى ما لا يراه غيره.

وقد توقف النقاد، ومؤرخو الشعر العربي الحديث، توقفا متأنيا عند بيان منزلته الشعرية، وكيف أنه يعد حامل لواء الشعر العربي الحديث، مهما اختلفت مدارسه، وتفاوتت مذاهبه بين المحافظة والتجديد، إذ يشرف عليها جميعًا وكأنه المنارة الهادية بأضوائها إلى الطريق القويم. ويكاد الدكتور شوقي ضيف جازما يؤكد أنه "هو الذي مكن لمصر من أن ينشأ فيها شوقي وحافظ وغيرهما من حوارييه، وأن تحتل مكان الزعامة في الشعر العربي الحديث خلال تلك الفترة"..

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق