مع بداية هذا الشهر فوجئنا بما تناقلته وسائل الإعلام عن استقالات عدد من نواب رئيس كوريا الجنوبية ومساعديه بسبب ما قيل من أن زوجة الرئيس (يون سوك يول) قد تدخلت في عمل الحكومة، وإنها تلقت هدية عبارة عن حقيبة يد ماركة كريستيان ديور، قدمها لها قس كوري تجاوزت قيمتها ٢٠٠٠ دولار، بينما القانون لا يسمح بقبول الهدية لأكثر من ٧٥٠ دولارا، فضلا عن اتهامات أخرى بالفساد، بعدها انتفض الشارع الكوري ومعه البرلمان، لذا لجأ الرئيس إلى إصدار قرار بحل البرلمان وإعلان الأحكام العرفية، وهو ما أثار زوبعة كبيرة من الغضب، فاجتمع أعضاء البرلمان وصوتوا على إلغاء قرار الرئيس، وقد سيطر الجيش على البرلمان وطرد أعضاءه بعدها تفاقم المشهد السياسي، لدرجة اتهام الرئيس بالعمالة لكوريا الشمالية، وخرج الناس إلى الشوارع مناصرين لأعضاء البرلمان، وأعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حاضرة في المشهد، لأن كوريا الجنوبية تعد إحدى الدول ذات العلاقة الوثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصًا في المجالين الاقتصادي والسياسي، وهي الشريك الأهم بحكم موقعها الجغرافي وبحكم الخبرات والدعم الكبيرين اللذين تلقتهما كوريا خلال تجربتها الطويلة، ولم يكن أمام الرئيس الكوري مجال إلا الرضوخ لقرار البرلمان، وإلغاء كل القرارات التي أصدرها، والنزول على رأي البرلمان فيما قيل بأن شبهة فساد قد قامت بها زوجته ومعها بعض مساعديه، بعدها عاد المجتمع الكوري لكي يمارس دوره في التنمية، وانتهت الأزمة بالنزول على رأي الشعب الذي يمثله البرلمان، وقدم الرئيس اعتذاره للشعب الكوري.
زرت كوريا الجنوبية مرتين أو ثلاث مرات خلال العقدين الماضيين، كانت الزيارة الأخيرة ربما في عام ٢٠١١، وكنت بصحبة مجموعة من الأصدقاء (جمعية الصداقة العربية الكورية)، وفي كل مرة كنت أحاول فهم ماذا حدث في كوريا، المدن الصناعية العملاقة، المجتمع الكوري الذي قفز اقتصاديا وأصبحت كوريا خلال 20 عاما واحدة من الدول الصناعية الكبرى، وأصبح التصدير هو عنوان المرحلة التي جعلت من كوريا واحدة من أغنى عشر دول في العالم، تراجع الفقر لدرجة أن مستوى الدخل قد قفز إلى مستويات تجاوزت الكثير من الدول الأوروبية، كنت حريصا في كل زيارة على التعرف على التجربة الكورية، التي أصبحت الصناعة فيها عنوانا كبيرا في مجالات صناعة السفن الأكبر في العالم، وصناعة البرمجيات والحاسبات، وصناعة السيارات، والأهم هو مقدرة الإنسان الكوري على التكيف مع الحياة الصناعية الجديدة في بلد لا يملك أيًَا من مقومات الصناعة، جميع المواد الخام يتم استيرادها، بما فيها منتجات البترول ومشتقاته، والنظام السياسي والاجتماعي مستقر وينعم بمنظومة قانونية وتشريعية قادرة على ضبط الحياة في هذا البلد.
كل مرة ألتقي فيها بشخصية سياسية أو اقتصادية كورية أحاول معرفة ماذا حدث، وجميع الإجابات لكل من التقيت بهم تبدأ عن التعليم، وقصة التعليم في كوريا تجربة تستحق الدراسة، فالمدارس موزعة على المدن والأحياء والمجتمعات الصناعية، وكل مدرسة لديها مشروع مختلف عن المدرسة الأخرى، حتى ولو كانت في حي واحد، ومجلس أمناء المدرسة هو الجهة المخول لها الإشراف والمراقبة واختيار المناهج واختيار المعلم والإدارة، وتقييم أداء المدرسة والمعلمين، فلا توجد مركزية في إدارة التعليم، فلكل مدرسة كافة الصلاحيات، وكل برامج التعليم يتم تحديثها عاما بعد آخر وفق التطور العلمي والصناعي، المدرسة مسؤولية المجتمع الذي اختار التعليم وسيلة للحاق بركب الحضارة المعاصرة، لا تهاون مع أي مسؤول أو جهة ما في سبيل أن تحقق المدرسة أهدافها، وهناك فروق واضحة بين المدارس من حيث الأهداف والبرامج وفق قواعد فنية يتم تقييمها يوما بيوم من خلال مجلس الأمناء الذي لا يتهاون أبدا مع أي مسؤول في المدرسة، والبرامج الفنية والثقافية والرياضية التي تشكل وجدان الطلاب هي جزء رئيس من البرامج الأكاديمية، وعندما سألت أحد المسؤولين، أجاب بأن البرامج الدراسية في مجملها تستهدف وعي الناشئة والطلاب، وتنمية مهاراتهم، تستوي في ذلك المقررات الأكاديمية والفنية والثقافية والرياضية.
المدن الصناعية مسؤولة عن إقامة المدارس، التي تستهدف الصناعة في كل مجالاتها، صناعة السيارات والسفن والبرمجيات وغيرها، ورجال الصناعة هم من يمولون هذه المدارس ويشرفون عليها ويختارون البرامج الفنية التي تستهدف خدمة مجالاتهم الصناعية، وعندما سألت أحد رجال الصناعة عن طبيعة الأيدي العاملة في كل هذه المجالات، أجابني بأن لديهم مشكلة تتعلق بندرة الأيدي العاملة، لذا فهم في حاجة إلى استقدام مليونين أو ثلاثة خلال السنوات العشر القادمة، لذا فهم يستقدمون أيدي عاملة جديدة من دول آسيا الوسطى، يوفرون لهم التدريب والتأهيل والحياة الاجتماعية والصحية والخدمات، ويوفرون لهم المدن التي تتوفر فيها كل سبل الحياة الكريمة، المجتمع الكوري لا يعرف الرفاهية بالقدر الذي تعرفه الدول الأوروبية، فالرفاهية لديهم هي الإنتاج والمنافسة والتصدير، لذا فالمجتمع يعمل كخلية نحل من المصنع إلى المنزل، الجميع يعمل دون كلل أو ملل.
تلقينا دعوة خلال إحدى زياراتنا من رئيس مجلس إدارة شركة سامسونج بصحبة بعض الزملاء من جمعية الصداقة العربية الكورية، واستقبلنا الرجل في المصنع وحكى لنا كثيرا عن قصة نجاح شركته والمصاعب التي واجهها في سبيل أن تصبح واحدة من أكبر الشركات الصناعية في العالم، بعدها اصطحبنا إلى المطعم الملحق بالمصنع، والذي يتناول فيه العمال طعامهم طوال اليوم، بعد أن طلبوا منا في اليوم السابق اختيار اللحوم أو الأسماك، وقد اخترنا الأسماك، وطال انتظارنا لفترة طويلة، بعدها دخل مقدمو الطعام في مشهد لافت حيث يحملون الشموع وقد انتظمت حركتهم بدقة شديدة، ووضعوا أمامنا المقبلات لاحظنا أنها بكميات قليلة جدًّا، ثم رحنا ننتظر الأسماك التي سوف يقدمونها، وبعد أن قدموها في لفافات من ورق الألومنيوم رحنا ننزع الغطاء الخارجي طبقة بعد أخرى، بعدها وصلنا إلى سمكة صغيرة للغاية قضمناها في واحدة أو اثنين وكنا جوعى، ورحنا ننظر إلى بعضنا ونحن مندهشون من أن مدير الشركة وصاحبها راح يتناول سمكته بالعصي لمدة تجاوزت الساعة بدون مبالغة! بعدها تناولنا القهوة وشكرنا الرجل وخرجنا بعدها نتحدث عن شعب لا يعرف رفاهية الغذاء، فهم يأكلون بالقدر الذي يستطيعون به أن يعيشوا ويعملوا وينافسوا، إنها تجربة شعب وضع أمامه هدفا كبيرا.
تجربة كوريا قصة نجاح تستحق الدراسة، فالتنمية بكل مجالاتها هي مسؤولية المجتمع، في التعليم والاقتصاد والتكنولوجيا، حتى في المتاحف فقد زرت متحفا للقطاع الخاص يوثق حياة الكوريين منذ العصور الوسطى، وعند دخول المتحف رحت أتفقد حياة الكوريين منذ فترة مبكرة من التاريخ، الحياة المعيشية في المأكل والمشرب وصناعة الحرف والزواج، بعدها تأتي فترات متلاحقة تجسد كل تفاصيل الحياة وصولا إلى كوريا المعاصرة، وما لفت نظري تزاحم تلاميذ المدارس والجامعات مع المعلمين يشرحون، والتلاميذ جميعا يحملون بين أيديهم (بلوك نوت) يكتبون ويسجلون وهم في حالة تركيز وعناية، هو متحف فريد يحمل رسالة وطنية لبلد يعمل بكل جهد لملاحقة كل ما هو جديد في كل مناحي الحياة، لدرجة أنه بإمكان الزائر أن يجلس ليتناول طعامه وشرابه لنفس الطعام والشراب خلال الحقب التاريخية ، والعاملون على الخدمة في هذه المطاعم يرتدون ملابس وإكسسوارات عن كل حقبة تاريخية، الجميع يعمل كخلية نحل بمنتهى الجدية والتركيز، وكأنهم يؤدون عملاً وطنيًّا كبيرًا.
كانت هذه المشاهد التي استدعتها ذاكرتي من زياراتي إلى كوريا، بعد أن عايشنا الأزمة الكورية منذ أسابيع قليلة، وكيف استطاع الشعب الكوري أن يستعيد ديمقراطيته التي كانت السبب الأهم في تلك النهضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت موضع فخار لكل الدول النامية.
0 تعليق