الأحلام من وجهة نظر العلم: «من أحلام الإنسان إلى أحلام الروبوت» - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. معمر بن علي التوبي

شاهدتُ قبل فترة فيلما بعنوان «Robot Dreams»، «أحلام الروبوت»، يستعرض مشاهد كرتونية تروي حياة روبوت آلي وأحلامه ومعاناته وارتباطاته العاطفية بمالكه، ولعلّ هذا الفيلم يعكس استشرافا مستقبليا لحياة البشرية وعلاقتهم بالروبوتات، وإن كان الفيلم قد خرج عن أطر الواقع الحقيقي لحياتنا بتخيّل الشخصيات العاقلة في صور حيوانات، عبر تقمصها لسلوكيات البشر وآلية تعاملهم مع التقنيات، بما فيها «الروبوتات»، التي يظهرها الفيلم بأنها ستغدو جزءا من حياتنا المستقبلية.

ورغم ما يحويه هذا الفيلم من تجربة علمية خيالية تتداخل مع الذكاء الاصطناعي والذكاء العاطفي، فإنه من المحبّذ أن نعطي مساحة أكبر لنناقش أحلام البشر قبل الشروع في التعاطي مع قضية أحلام الروبوتات وإمكانية امتلاكها للوعي، واستطاعتها بواسطة هذا الوعي -وإن كان بمضمونه الرقمي المحاكي للوعي الواقعي- رؤيتها للأحلام المشابهة لأحلام البشر؛ لأننا بحاجة إلى أن نعرّج على أحلامنا -نحن البشر- ونستكشف مظاهرها المعقولة واللامعقولة؛ فالمعقول منها ما يؤكده العلم، ويستعرض آلية حدوثه ومسبباته التي تشمل عملية صناعة أدمغتنا وعقولنا للأحلام المنامية، ولماذا معدلاتها تزيد أو تضعف عند بعضنا، وعلاقتها بالذاكرة والعقل الباطن، وأسباب حدوثها، أما اللامعقول منها -وفق الوصف العلمي المادي- فهو ما يتعلق بتلك الأحلام التي نراها لتصبح واقعا متحققا بعد رؤيتنا للحلم أو بعد مدة من الزمن، وهي ما نطلق عليها «الرؤى» -وفق الدلالات الدينية والثقافية- وعلاقتها بالجانب الروحي -الميتافيزيقي- وإمكانية تفسيرها بالمنهج العلمي الحديث، مثل قوانين الكوانتم.

كيف تتشكّل الأحلام المنامية وفق الرؤية العلمية؟

من الناحية العلمية، تُعد الأحلام من العمليات المعقدة التي تتشكل أثناء النوم، وقد حدد الرصد العلمي نشاطها وذروتها التي تبدأ غالبا في مرحلة حركة العين السريعة (REM)، وتناولت العديد من الأبحاث العلمية آلية تشكل الأحلام من خلال ارتباطها بالنشاطات العصبية والنفسية والمعرفية عند الإنسان، وخلال مرحلة حركة العين السريعة، تنشط مناطق معينة من الدماغ بشكل كبير، مثل الجهاز الحوفي المسؤول عن تنظيم العواطف، ما يوجِد بيئة دماغية ديناميكية وعاطفية تسهم في ظهور الأحلام، في المقابل، يقل نشاط مناطق أخرى، مثل القشرة الجبهية الأمامية التي تُعد مسؤولة عن التفكير المنطقي والوعي الذاتي، مما يفسر الطبيعة غير المنطقية والعشوائية التي تتميز بها بعض الأحلام، حيث يمكن أن تحمل مشاهد مناقضة للواقع أو خارجة عن المألوف.

وفي عام 1977، اقترح العالمان ج. ألان هوبسون وروبرت مكارلي نموذجا أُطلق عليه «Activation-Synthesis Model» أو «التنشيط والتوليف»، الذي يفترض أن الأحلام تنشأ من محاولة الدماغ فهم النشاط العصبي العشوائي الذي يحدث أثناء النوم، لا سيما في مرحلة حركة العين السريعة، ووفقا لهذا النموذج يقوم الدماغ بتوليف النشاط العصبي في شكل سرد متماسك ينتج عنه تجربة الحلم الذاتية، وقد نشر هذا الطرح في استطلاع علمي بعنوان «Allan Hobson and Neuroscience of Dreams» على موقع Dreamsstudies.

من جانب آخر، يشير العلم إلى أن الأحلام تؤدي دورا مهما في توحيد الذاكرة وتنظيم العواطف، وأثناء النوم يعالج الدماغ التجارب اليومية ويدمجها مع المنظومة التخيلية، لتظهر في هيئة أحلام، وهذه العملية قد تساعد في تنظيم الذكريات وإدارة العواطف، مما يعزز الصحة النفسية.

وتؤكد العديد من الدراسات أن الأحلام تؤثر نفسيا سواء بالإيجاب أو بالسلب، وتزداد هذه التأثيرات عند ربط الأحلام بالمعتقدات الثقافية أو الدينية، حيث تُضفي عليها طابعا خاصا يُعزز من ارتباطها بالحالة النفسية والمزاجية للشخص.

من منظور علمي آخر، تفترض بعض الدراسات العلمية أن الأحلام تعمل باعتبارها نوعا من الترميز التنبؤي؛ ليسمح للدماغ بمحاكاة سيناريوهات مستقبلية محتملة والاستعداد للاستجابات المناسبة؛ فعلى سبيل المثال تقترح نظرية محاكاة التهديد «Threat Simulation» -كما تشير إليها مقالة علمية بعنوان «Converging theories on dreaming: Between Freud, predictive processing, and psychedelic research» التي يمكن ترجمتها إلى «التقاء النظريات حول الأحلام: بين فرويد، والمعالجة التنبؤية، وأبحاث المخدرات المهلوسة» التي نشرها موقع «Frontiersin» في عام 2023م- أن الأحلام تمكّن الإنسان من ممارسة الاستجابات المسبّقة للمواقف المهددة، مما يرفع بدوره من مهارات البقاء، وهذا ما تماثله في الواقع اليقظ مشاعر القلق والخوف التي يمكن أن تعمل في نطاق إيجابي يدفع الإنسان إلى تعزيز أساليب البقاء والحماية من المخاطر.

بمنظور عام، يرى العلم أن الأنشطة والتجارب اليومية التي يمر بها الإنسان تؤثر بشكل كبير على مشاهد الأحلام ومحتوياتها المرئية والشعورية، إذ يقوم الدماغ -غالبا- بدمج عناصر من الأحداث الأخيرة في التجارب اليومية، والاهتمامات الشخصية، والحالات العاطفية في منظومة الأحلام؛ ليعكس المعالجة المعرفية والعاطفية المستمرة، وهذا ما يراه عالم النفس سيجموند فرويد، حيث يعتبر الأحلام ومشاهدها انعكاسات مُرمَّزة لواقعنا الخارجي الذي يمثّل تجاربنا في الحياة وأفكارنا الظاهرة والخفية، وقد ركّز فرويد على أن تلك الرغبات الخفية التي نتجنب إظهارها في واقعنا الفيزيائي الخارجي -لأسباب نفسية، أو اجتماعية، أو دينية- عادة ما تكون أكثر ظهورا في أحلامنا المنامية؛ لتعكس وجود رغبات مكبوتة -وفق نظريته- تتحرر بواسطة الأحلام.

كيف يفسّر العلم الأحلام المنامية المتحققة مستقبلا «الرؤى»؟

في حين أن العلم قدّم تفسيراته لظاهرة الأحلام بشكل علمي مبرهن، إلا أنه لم يتمكن من حل لغز أسرار الأحلام التي تتحقق -التي جاءت بشأنها شهادات موثّقة تؤكد حدوثها بشكل كبير- التي يمكن أن نطلق عليها «الرؤى» استنادا إلى المفهوم الثقافي والديني السائد.

تباينت آراء العلم فيما يخص هذا النوع من الأحلام، وأحد أقرب الآراء تقبلا في الأوساط العلمية ما أورده عالم النفس «سيغموند فرويد»؛ فوفق نظرية «فرويد» التي صاغها في كتابه «تفسير الأحلام» يفترض فيها أن الأحلام عبارة عن عمليات لتحقيق الرغبات المكبوتة كما أسلفنا آنفا، وشرح «فرويد» مفهوم «عمل الحلم» الذي يقصد به العملية التي يحوّل بها العقل اللاواعي الرغبات والأفكار المكبوتة داخل العقل الباطن إلى مشاهد ظاهرة، وتسمح هذه التحولات للحالم بتجربة تحقيق الرغبات بتقمص أدوار مرمّزة، متجاوزةً آليات الرقابة الداخلية للدماغ، ويعتقد أن جلّ الأحلام -بما فيها تلك التي نعتقد بتحققها المستقبلي- أنها متعقلة بتجارب العقل الباطن وتخزيناته بما فيها غير المفطون إليها. وضع «فرويد» لآلية «عمل الحلم» عددا من العناصر منها: التكثيف، والتي تُعنى بعملية دمج الأفكار والسيناريوهات المتعددة في صورة أو مشهد واحد داخل الحلم، وكذلك عنصر الإزاحة المتعلق بنقل الحالة العاطفية من مشاعر ذي أهمية إلى مشاعر ذي أهمية أقل. يأتي عنصر الترميز ليعكس الأفكار أو الرغبات المجردة ويترجمها إلى رموز، ويرى «فرويد» أنها بحاجة إلى عملية فك تشفير لتفسير مكنونها الحقيقي، وهذا ما يدخل ضمنيا في منظومة تفسير الأحلام وفق المنهج العلمي الحديث الذي وضعه «فرويد»، وأُدرج في حيّز علم النفس والعلاج النفسي. نجد أخيرا عنصر المراجعة الثانوية المعني بتنظيم العقل المشاهد المجزأة للحلم في سرد متماسك عند الاستيقاظ، ووفق هذه العناصر مجتمعةً، يفترض «فرويد» أن الأحلام تُمكِّن الأفراد من تحقيق رغباتهم اللاواعية بطريقة مقبولة للعقل الواعي؛ ليساهم في تحقيق التوازن النفسي.

بمضمون عام ومختصر، لا يؤمن العلم التجريبي بوجود ما نسميه الرؤى المنامية التي تعكس كشوفات مستقبلية؛ فهي من ضمن منظومة الأحلام التي تتعلق بعمليات الذاكرة والعقل الباطن والرغبات الدفينة، وحتى إن صادف تحقق بعضها؛ فهي -من وجهة النظر العلمية الرسمية- من ضمن حالات المصادفة -حتى مع فيض حالات حدوثها وتكرارها- لا أكثر، وذلك لأسباب تتعلق بمبادئ العلم الطبيعي الذي يقترح مجموعة من المعايير الصارمة في عملية التفسير العلمي وصياغة نظرياته.

ماذا عن الآراء الأخرى العلمية الحديثة والدينية فيما يتعلق بالرؤى المنامية؟

نأتي أولا إلى الموقف الديني من الرؤى؛ فوفق الآراء الدينية بما في ذلك الإسلام -وإن تباينت في مضمون تأويلاتها ومصادرها- فإن الرؤى المنامية في عمومها ظاهرة ممكنة الحدوث استنادا إلى شواهد قرآنية مثل ما جاء في سورة يوسف التي تبرهن حقيقة الرؤى المنامية بمعنى القدرة على الكشف المستقبلي للأحداث بوجود الإرادة الإلهية، ولكن لم نجد تفسيرا بطابع علمي لآلية حدوث هذه الظاهرة، وكيف تعمل أو تتحقق بواسطتها الكشوفات المستقبلية رغم ما جاء من محاولات تفسيرية تحمل الطابع الفلسفي الصوفي في محاولة إيجاد أرضية دينية تفسّر سر هذه الظاهرة وآلية عملها مثل التي أوردها المفكّر سيد قطب في كتابه «ظلال القرآن» أو الدكتور مصطفى محمود، وكذلك عبر محاولات بأسلوب فلسفي يتأرجح بين التأثير الثقافي وتأثير علم النفس مثل الذي أورده الدكتور العراقي علي الوردي.

تظل التأويلات الفلسفية وإن أحيطت بهالة دينية محل جدل وعدم تقبّل خصوصا من قبل الأوساط العلمية المتمسكة بالمنهج التجريبي المبني على التجربة والبرهان لا على الرأي والتأويل العقلاني، ولهذا انطلقت محاولات علمية حديثة في تفسير هذا النوع من الأحلام لتمنحه شرعية علمية تقرّبه من الدائرة العلمية؛ فتجعل من ظواهره الميتافيزيقية المرتبطة بالكشف المستقبلي ممكنة الحدوث والتحقق. تأتي فرضية «Zero Point Field» التي وجدت أقرب ترجمة لها «الحقل الكوني المشترك» كما يُشار إليها في عدد من الكتب العلمية أحدها ما كتبه «رسل تارج» «Russell Targ» في كتابه «Limitless Mind» «العقل اللامحدود»، وتدعم هذه الفرضيةُ فرضيةً أخرى تُدعى «العقل الممتد»؛ وتتفق مثل هذه الفرضيات على مبدأ وجود عقل كوني مشترك تتفاعل فيه كل العقول الفردية بعضها بعضا عن طريق الذبذبات أو الترددات التي تترجم المشاعر والذكريات والرغبات المكنونة داخل العقول، وهذا ما يشكّل وجود حقل كوني كلّي يمنح العقل الفردي صلاحية الولوج إلى المنظومة الكلية؛ لتحدث ظاهرة الرؤى المنامية التي تكشف لنا بعضًا من المشاهد المنامية العجيبة، ولكن لا يزال لغز وجود حالات موثّقة وكثيرة للكشف المستقبلي عبر الرؤى المنامية لم يحل بشكل علمي رصين؛ لتأتي محاولة أخرى عبر فرضية أخرى يطلق عليها «كتلة الكون» التي اقترحتها «كريستي ميلر» لتمثّل بواسطتها الكون بأنه كتلة عملاقة بأربعة أبعاد تشمل الأبعاد المكانية الثلاثة والزمن باعتباره البعد الرابع، وفي هذا المنحى، يكون للزمن أقسامه الثلاثة: الماضي، الحاضر والمستقبل، وموجودة كلها في لبنة كونية واحدة تسمح بواسطة الحقل الكوني المشترك للعقل البشري أن ينفذ إلى هذه الأزمنة الثلاثة بما فيها المستقبل الذي يفسّر حدوث الرؤى المنامية وتحقق أحداثها في المستقبل. تتجاوز هذه الآراء وإن تعددت فرضياتها الواقع العقلي السائد، ولكن ظواهر الكوانتم المحيّرة لا تختلف كثيرا في دهشتها عن دهشة حدوث الاختراق الزمني للعقل التي تكون في أعلى حالاتها فترة المنام -عند الراحة التامة-، وهذا ما تقرّه بعض المدارس الروحية مثل المدارس الصوفية التي تؤمن بوجود ما يسمى بالكشوفات التي يمكن أن تحدث في اليقظة مع حالات التأمل والسكينة العميقة كما تحدث في فترة النوم.

أيمكن للروبوتات أن تحلم؟

تظل الآراء والدراسات المتعلقة بأسرار رؤانا المنامية في حدود نطاق الاستعراض العلمي النسبي الذي يحتاج إلى مزيد من العمق لبلوغ البرهان القطعي، وتظل أحلامنا بمضمونها العام ملازمة لنا بأسرارها العجيبة، ولكن لا أظن أن شفرات ألغاز أحلامنا ستفك رغم ما يمكن أن يتحقق في مستقبلنا القادم في إمكانية توليد الروبوتات للأحلام بشكل يشابه أحلام البشر وآلية عمله، ولعلّ فيلم الخيال العلمي الذي أشرنا إليه في بداية المقال بمنزلة الدعوة المفتوحة لمراكز الأبحاث للسعي في تحقيق هذا النوع من الروبوتات ذات الذكاء العاطفي بجانب الذكاء الاصطناعي، والذي يمكنه توليد المشاعر والرغبات الظاهرة والدفينة؛ فتقوده إلى تطبيق خوارزمي رقمي متقن لعناصر «فرويد» في آلية «عمل الحلم»، ولكن لن تكون هذه الأحلام إلا انعكاسات لبيانات كبيرة تعكس التجارب والمشاعر -المصطنعة- للروبوت تحاكي عمليات التفكير العقلاني والعاطفي والتحليلي لواقع الحياة وأحداثه دون أيّ قدرة على الولوج إلى منطقة الوعي الكبرى «الحقل أو العقل الكوني المشترك». ستبقى أحلام الروبوت في حدودها الرقمية مهما بلغت من ذكاء، وستبقى أسرار الرؤى المنامية التي يتفرّد بها الإنسان دون أحد سواه من القضايا الجدلية التي لا أستبعد أن يقترب العلم يوما من فك شفراتها والتعرّف على منطقها الميتافزيقي الذي أرجّح أن فيزياء الكوانتم وقوانينها المدهشة ستكون أداة فك هذه الشفرات.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق