أنا في الدار البيضاء، أنا في المغرب، في أقرب الأمكنة إلى القلب الفلسطيني. جئتُ هنا مدعوّاً من وكالة بيت مال القدس الشريف لتوقيع كتبنا في معرض الدار البيضاء للطفل والشباب، برفقة الفنان التشكيلي المقدسي شهاب القواسمي، والشاعر فارس سباعنة، وبرفقة ثلاثتنا حبٌّ كبير للمغرب وحنينٌ لا يوصف.
في هذا البلد الأصيل يكفي فقط أن تلقي تحية على مغربيّ يمر في الشارع وتقول له: صباح الخير، فيعرف فوراً أنك من بلاد الشام. يسألك السؤال السريع والطبيعي: هل أنت سوريّ؟ فتقول له: لا، أنا فلسطيني. لينهمر عليك بالدموع والعناق والحب، فترتبك أنت وأصدقاؤك، تلك الارتباكة الجميلة والحبيبة، ارتباكة العثور على الشقيق بعد طول ضياع، وبعد طول صحراء، ارتباكة الوصول إلى البيت.
أجلس الآن في بهو فندق ضخم في الدار البيضاء، لا أعرف شيئاً عن الشوارع التي خلف الفندق وأمامه. لكنّي سألت حارس الفندق هذا الصباح: أيّها المغربي الطيب، ما اسم هذا الشارع المقابل للفندق؟ ابتسم وقال: إنّه شارع المقاومة. فظننته يمزح، فقلت له: أنا جادّ، ما اسمه الحقيقي؟ فقال لي: أخبرتك أنّه شارع المقاومة. نظرتُ إلى يافطة على يميني، فإذا مكتوب عليها "شارع المقاومة". فأصبتُ بسعادة غامرة، وأخذتُ أقفز أنا وصديقاي على درجات الفندق وسط ذهول المارة، والنزلاء، والعابرين. صحتُ بأعلى صوتي: يا الله! المكان المغربي ذكي جداً، ويعرف كيف يرتّب المواعيد بين الشوارع، وبين مُحبّيها والمنتمين إلى فكرتها. إنّه حدس المكان المغربي الأصيل.
هذه زيارتي الثالثة للمغرب. جئتُ في عام 2015م إلى الدار البيضاء أيضاً مدعوّاً إلى المعرض الدولي للكتاب، وفي عام 2019م جئتُ مدعوّاً أيضاً إلى معرض الكتاب في مدينة وَجدة التي تقع في الشمال على الحدود الجزائرية. في المرّتين اللتين حضرت فيهما إلى هنا، كنتُ أعود إلى فلسطين متجدداً، مكثّفاً، تتقطّر فلسطينيتي داخلي، فيتكثّف إحساسي بعروبتي. ثم تعلو طمأنينتي إلى الأعلى لتقول لي: كن واثقاً أنّ الحرية قادمة، ما دامت هذه الشعوب العظيمة موجودة. وهذه المرة جئنا من فلسطين، ثلاثتنا، ونحن محبطون من الأوضاع السياسية في فلسطين والعالم العربي، ومن الوضع الصعب لشعبنا في غزة، حيث الإبادة تجلس وراء الخيمة، ووراء البيت، وفوق السماء، وتحت الأرض، تحاصر الأطفال والنساء والشيوخ، وتقتل الشجر والحجر. جئنا محبطين وباردين، لكنّ المغرب طمأننا. الدار البيضاء تحديداً قالت لنا بالحرف الواحد: كونوا واثقين أنّ الحرية في النهاية ستكون هي الثمرة، وستكون هي الجائزة.
في ندوة أدب الطفل الفلسطيني والعربي، وفي احتفالية توقيع كتبنا التي ألّفناها في فلسطين لصالح وكالة بيت المال المغربية الفلسطينية، قدّمنا ثلاثتنا أوراقاً حول وضع أدب الطفل في العالم العربي. قدّم الفنان المقدسي شهاب القواسمي ورقة تحدّث فيها عن تجربته في المشاركة في كتاب (هيّا إلى القدس يا أطفال) وفي كتابه الآخر (احكِ يا عصفور الشمس، احكِ عن القدس). كان شهاب القواسمي قد شارك في هذا الكتاب بلوحات تشكيلية عن أمكنة مقدسية، وقمتُ بكتابة قصص هذه الأمكنة بطريقة جمالية فكاهية قريبة من أذواق الأطفال وحواسّهم. هما كتابان موجّهان إلى أطفال العالم العربي خصوصاً لتعريفهم بالأمكنة المقدسية التي لربما يسمعون عنها، ولكنّهم لا يعرفونها، مثل المسجد الأقصى، قبة الصخرة، سوق العطارين، حي المغاربة، باب العامود.
أما الكتاب الثالث، فقام بتأليفه الشاعر فارس سباعنة، وهو عبارة عن تاريخ فلسطين بلغة مبسطة وجميلة، مع رسومات لفنانة تشكيلية فلسطينية. الكتاب عبارة عن تجربة كوميكس فلسطينية جديدة. يُذكر بأنّ فن الكوميكس دخل حديثاً إلى فلسطين، وكان الفنان التشكيلي المعروف محمد سباعنة هو الذي ساهم بشكل كبير في إدخال هذا الفن إلى فلسطين. استلهم منه فنانون فلسطينيون كُثر هذه التجربة وحاولوا أن يكتبوا مثلها.
في نهاية الندوة قرأ زياد خداش نصاً من كتابه الجديد (قصص الأطفال الشهداء)، الذي حاول فيه أن يذهب إلى حياة الشهداء الإنسانية، بعيداً عن مباشرة الاستشهاد، ومكانه ورقميّته. بينما راح الفنان التشكيلي المقدسي شهاب القواسمي يرسم أمام الجمهور لوحة باب المغاربة. وألقى فارس سباعنة، بعد أن تحدّث عن تجربته في كتابه (تاريخ فلسطين المبسّط للأطفال)، قصيدة شعرية عن غزة وأطفالها. ولم يكن المشهد ليكتمل دون أن يقرأ خدّاش والقواسمي وسباعنة كتابات الكتّاب الغزّيين التي كتبوها تحت نار الإبادة. فقرأ زياد نصوصاً للشاعرة مريم قوّاش، وقرأ شهاب نصوصاً لجواد العقاد، وقرأ سباعنة نصوصاً لحيدر الغزالي.
يُذكر أنّ وكالة بيت مال القدس الشريف هي مؤسسة اجتماعية إنسانية تابعة للجنة القدس التي يرأسها ويرعاها المغرب. تعمل الوكالة على تنفيذ مشاريع اجتماعية في القدس للمساهمة في حماية المدينة المقدسة والحفاظ على موروثها الديني والحضاري ودعم صمود أهلها. ولتحقيق ذلك، تتبنى منهجية عمل تساعدها على النهوض باختصاصاتها، وتضع عدداً من المشاريع القابلة للتنفيذ، تُعنى بالإنسان وتجعله في صلب عملية التنمية والبناء التي تتطلع إليها في المدينة المقدسة.
تتوزع مشاريعها على قطاعات التعليم، والصحة، والإسكان، والثقافة، والرياضة، وتمكين المرأة، والعناية بالشباب والطفولة، فضلاً عن برامج المساعدة الاجتماعية للأشخاص في وضعية صعبة، وللفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة.
0 تعليق