قبل أسابيع تركز اهتمامنا، نحن أهل هذه المنطقة، على اليوم التالي لغزة. كانت غزة الفرصة التي لفتت انتباه البعض منا، وكان بعض قليل انتبه إلى خريطة حملها نتنياهو إلى نيويورك ليرفعها أمام العالم بأسره. عرفنا يومها أو في ما بعد أن الخريطة لإسرائيل الكبرى. ولم تمر أيام كثيرة إلا وراح يعلن عن عزمه هو وحكومته على صنع شرق أوسط جديد. هكذا وبغزوات صريحة ودموية انتقل همّنا واهتمامنا باليوم التالي في غزة، أو أضيف، إليها الضفة ولبنان ثم سوريا. صار الهمّ أكبر، وازداد في المنطقة الانشغال بقضية اليوم التالي لتصبح وبصياغة مناسبة البند الأول غير المعلن على جدول أعمال اجتماعات عديدة للمسؤولين.
لسنا وحدنا، وبنا أقصد شعوب الشرق الأوسط برمته، سواء كانت هذه الشعوب رعايا دول عربية أو دول إقليمية مثل الفرس والأتراك والأكراد والتركمان والكلدانيين وحتى الإسرائيليين، أقول لسنا وحدنا الذين نحمل همّ «اليوم التالي» أو ننشغل به وبما يحمله لنا. أقرأ، كما يقرأ الكثيرون أو يسمعون ما أسمع، عن الموجات المتلاحقة من القلق التي اجتاحت وتجتاح مختلف قارات العالم منذ أعلن دونالد ترامب عن نيته ترشيح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة. لن أتحدث عن القلق داخل الولايات المتحدة نفسها ففي ظني أنه سوف يعلن عن نفسه متدرجاً في الصعود خلال الأسابيع الأولى من ولاية الرئيس الجديد مدفوعاً بتنفيذ ترامب لوعوده، ولكني أختار القلق السائد هذه الأيام في كل دول أمريكا اللاتينية من دون استثناء، ليس فقط بسبب موقف الرئيس الجديد من قضايا الهجرة وإصراره على أن المهاجرين من هذه البلاد غالبيتهم مجرمون ولصوص وملونون، ولكن أيضاً بسبب التعاطف الدبلوماسي والسياسي من جانب حكومات أمريكا اللاتينية مع نظامي الحكم في كل من كوبا وفنزويلا.
الجديد والمثير في هذه الحالة، وأقصد القلق والانشغال المتزايدين لدى شعوب بعينها نتيجة قرب وصول ترامب إلى تولي مهام منصبه، هو الصدى المكثف المعبر عن رد فعل شعب كندا لتصريح للرئيس ترامب قبل أسبوع أو أكثر قليلاً حمل تهديداً صريحاً ومباشراً لترودو رئيس الوزراء الكندي بعقوبات مدمرة للاقتصاد الكندي إذا لم تبذل حكومته جهودها لمنع عبور الأجانب إلى الولايات المتحدة. أنا نفسي أذكر جيداً، وكنت طالباً في مونتريال، كيف كنا نعبر هذه الحدود، وهي الأطول في العالم، مرات عديدة في الشهر الواحد من دون أي عقبة تذكر.
القلق موجود في روسيا ولكنه مختلط ببصيص أمل. لم يخطر على بال الرئيس بوتين وحكومته أن حربه ضد أوكرانيا سوف تطول إلى هذا الحد. كما أنه، وفي الوقت نفسه أو قبل هذا الوقت، لم يخطر هذا الخاطر على بال قيادة حلف الأطلسي وأمريكا على رأسه عند التخطيط لإثارة رد فعل معين عند القيادة الروسية.
الآن تتأكد رغبة طرفي الصراع، باستثناء الجماعة الحاكمة في كييف، في تهدئة وتيرته أو تسويته بشكل عاجل لضخامة تكاليفه وضعف مكاسبه. وصل القلق، كما أراه شخصياً، إلى حد جعل الرئيس بوتين يغامر في مؤتمره الصحفي السنوي المنعقد قبل أيام قليلة عندما فتح باباً من أبواب جهنم ليصف جماعة الرئيس زيلينسكي بالعصبة اليهودية. مرة أخرى يصل فشل قيادة روسية إلى هذا الحد الخطير، أقصد إثارة الشعب الروسي لليهود.
نعود إلى ما يهمنا بشكل مباشر وهو القلق الناشب في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط إن لم يكن
في جميعها. لا شك أن عناصر القلق متنوعة، منها ما هو عالمي، مثل الترامبوية الزاحفة من واشنطن في السنوات الأربع القادمة وما تخلفه من آثار في السنوات والعقود التالية. يكفي أن نذكر الوعود العديدة التي أتحفنا بها الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية وبعدها، حصيلتها إن صدقت تحليلاتها مكانة عظمى لإسرائيل في الشرق الأوسط، ومكانة دنيا للعرب وبالأخص لعقيدتهم غير الدينية أي للعروبة.
مصدر آخر للقلق كشفت عنه التطورات الأخيرة في المنطقة، وهو الميل المتنامي من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل للاستفادة من رعايتها منفردة أو مجتمعة، عن قرب أو عن بعد، لجماعات إسلامية متطرفة. عندها تدخل إسرائيل منتزعة أراضي جديدة ومستولية على مواقع زاخرة بالمواد الخام ومحتلة مناطق تقع بالصدفة أو بالتعمد ضمن خريطة ما يسمى الآن بشرق أوسط جديد.
إيران في أشد حالات القلق. الحصار بعد تقليم أهم أظافرها يكاد يخنقها دبلوماسياً وإقليمياً. العراق في قلق أشد من طول انتظار دوره وصعوبات تأقلمه مع متغيرات أكثرها غير عادي ولا مألوف. تركيا في قلق مختلف، فالأكراد يتجمعون في سوريا مع اقتراب الوعد بحل نهائي لقضيتهم والأتراك يحشدون قوتهم لمنع تحقيق هذا الوعد، وفي الوقت نفسه يستعدون لمهمة استحال تنفيذها لمن حاول من قبلهم، ألا وهي ضبط حال السوريين عن طريق الاشتراك معهم في إدارة شؤونهم وحكم بلادهم وإلهائهم عن حلم حياتهم، بذل الغالي والرخيص في العمل من أجل الوحدة العربية، باعتبارها الحل الأمثل لتعددية مجتمعهم.
أما الأردن فوحدته يهددها إصرار إسرائيل على دور له في النظام الشرق أوسطي الجديد كوطن بديل، وأظن أن المراقب الحريص والمتأني يستطيع أن يستدل على دول في الإقليم أبدت بالفعل قابليتها واستعدادها لاستقبال هذا «اليوم التالي».
0 تعليق