تأملات في اليوم العالمي للغة العربية - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

د. إدريس لكريني

تعدّ اللغة العربية من أعرق اللغات على الصعيد الإنساني، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن هناك نحو نصف مليار نسمة يتحدثون هذه اللغة، التي تعد لغة رسمية معتمدة في نحو 25 دولة.
تم اعتماد يوم 18 ديسمبر من كل عام مناسبة للاحتفاء باللغة العربية، وهو التاريخ الذي يصادف صدور قرار الجمعية العامة رقم 3190 (د 28) لعام 1973 القاضي بإدراج اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية، ولغات العمل داخل هيئة الأمم المتحدة. وتمثل هذه الذكرى فرصة لاستحضار تاريخ هذه اللغة، ومواكبة المكتسبات التي تحققت في سياق تعميق حضورها على المستويين العربي والدولي، كما يشكل ذلك لحظة للتأمل بصدد مستقبلها، وكذا السبل والمداخل الكفيلة بتعزيز مكانتها على المستويات العلمية والتقنية، وملاحقة التطورات الرقمية المذهلة.
ثمة الكثير من الأسئلة المتجددة التي تفرض نفسها أمام الباحثين والخبراء وصانعي القرار على هامش هذه الذكرى، تتعلق في مجملها بمدى قدرة اللغة العربية على مواكبة تطورات العصر، وبخاصة في ما يتصل منها باقتحام المجالات التقنية، وانتشار المحتويات بهذه اللغة على شبكة الأنترنت، والتي ما زال يطبعها الضعف، وباعتماد تشريعات وسياسات عمومية، وإرساء ثقافة تعزز مكانتها داخل المجتمعات.
لا يمكن كسب هذا الرهان إلا بالاقتناع بالثراء الذي يطبع هذه اللغة العريقة بتراكماته الفكرية والعلمية والفنية التي أسهمت في تطور الحضارة الإنسانية، والذي ألهم الكثير من الخبراء والمثقفين الأجانب، للبحث في مكنونات هذه اللغة التي تجسد أحد المرتكزات الأساسية التي ينبني عليها التنوع الإنساني، ببرمجة تدريسها في عدد من الجامعات والمعاهد الدولية، وإحداث مراكز تعنى بهذا الشأن في عدد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية والصين.
رغم الجهود المبذولة من قبل عدد من الدول العربية، ما زالت هناك فجوة رقمية كبيرة تحول دون انتشار هذه اللغة في شبكة الإنترنت، أو قدرتها على مواكبة العلوم المتطورة، وهو ما يضع مسؤولية كبيرة في هذا الصدد على عاتق المؤسسات التعليمية لإعداد أطر على قدر من الكفاءة لتعزيز مكانة اللغة العربية داخل الفضاءين الرقمي والتقني.
ففي المنطقة المغاربية كان للاستعمار أثر كبير في تهميش اللغة العربية وسيادة التدريس والتعامل الإداري باللغة الفرنسية، كسبيل لتعزيز وجوده الثقافي إلى جانب حضوره العسكري والسياسي، حيث سعى إلى بسط نفوذه الثقافي عبر فرض وتكريس لغته بحمولاتها المختلفة التي ظلت حاضرة وبقوة، رغم رحيله تحت ضغط نضالات ومقاومة شعوب المنطقة، بعدما نجح في توطين لغته بالمنطقة وتكريس اعتمادها في عدد من المعاملات والمؤسسات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي يحتك بها المواطنون.
وعلى الرغم من السياسات المتباينة التي اعتمدتها دول المنطقة على مستوى التعريب ودعم مواكبة اللغة العربية لتحديات العصر، وتأكيد كونها اللغة الرسمية بالبلاد داخل دساتيرها، فإن ذلك لم يكن كافياً، إذ ظلت اللغة الفرنسية حاضرة بقوة داخل هذه البلدان بعد نيل استقلالها، وبقي التهميش يلاحق اللغة العربية لسنوات عدة رغم المطالب التي قادتها الكثير من النخب والهيئات العلمية والمدنية باتجاه منح اللغة العربية مكانتها اللائقة بها داخل المجتمع.
يبدو أن هناك نخباً ترى أن مواكبة العصر والعلوم الجديدة والتكنولوجيا الحديثة واقتحام سوق الشغل، لا يمكن كسبها إلا بالإقبال على اللغة الفرنسية باعتبارها تمثل «لغة العصر».
وإذا كانت العديد من الدول الإفريقية قد اعتمدت الفرنسية كلغة رسمية بصورة علنية وواضحة، كخيار اعتبرته كفيلاً بتوحيد المجتمع وتجاوز الصراعات والخلافات العرقية والإثنية واللغوية التي تطبع هذه البلدان، فإن هناك مفارقة كبيرة في المنطقة المغاربية، بين دساتير تعتبر العربية لغة رسمية للبلاد، وواقع مغاير يكرّس تهميش هذه الأخيرة في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، ويدعم إيلاء الأهمية للغة الفرنسية في عدد من المعاملات والمجالات في القطاعين العام والخاص.
لا يمكن المرافعة بشأن انتشار هذه اللغة عالمياً وولوجها عالم التكنولوجيا الحديثة، في الوقت الذي تتعرض فيه للتهميش والإقصاء داخل بلدانها، وتبرز الكثير من المعطيات التاريخية أن اللغة العربية لم تكن في يوم من الأيام حائلاً دون تطور العلوم بمختلف أنواعها في مراحل مشرقة من تاريخ المنطقة، حيث برز فلاسفة وأطباء وفلكيون ورياضيون، ما زالت آثار إسهاماتهم واضحة على العلوم والحضارة الإنسانيتين.
إن إعادة الاعتبار للغة العربية لا يسائل الدول فقط، بقدر ما يعني أيضاً مختلف الكفاءات العلمية والفكرية التي تشتغل بلغات أجنبية على طريق تمكين اللغة العربية من هذه المواكبة، كما يسائل أيضاً مختلف المؤسسات الفكرية والمراكز البحثية في المنطقة.
والواقع أن الاهتمام باللغة العربية أو الأمازيغية لا يعني البتّة تهميش بقية اللغات الحية كالإنجليزية والإسبانية والصينية والروسية واليابانية.. التي تتيح الانفتاح على مجتمعات وثقافات أخرى، بل هو مدخل يدعم الشعور بالمواطنة والانتماء والهوية المشتركة وبلورة تنشئة اجتماعية سليمة، بالنظر إلى الحمولات الحضارية والثقافية والفكرية التي تنطوي عليها هذه اللغة.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق