رغم أن شبح الموت أصبح قدراً لمئات آلاف النازحين في قطاع غزة، إلا أنه يمنحك هامشاً واسعاً من الديمقراطية وحرية الاختيار للطريقة التي يمكن أن تموت بها، ويمنح المجتمع الدولي أيضاً صكوك البراءة من قبول ديكتاتورية الموت، أو على الأقل، تبرير عجزه عن مواجهة صرخات الاستغاثة هناك من دون أن تكون لديه القدرة على الاستجابة.
تلك هي حال أكثر من مليوني نسمة في قطاع غزة، حيث لم يعد ثمة فرق بين الموت بقنبلة أو صاروخ إسرائيلي، أو غرقاً بمياه الأمطار وارتفاع منسوب مياه البحر، أو التجمد في خيمة ممزقة، لا تسمن ولا تغني من جوع، فالمجاعة قائمة أصلاً، وهي تحاصر الجميع في كل الاتجاهات، ولا سبيل أمام هؤلاء سوى التشبث بإشهار حريتهم في الاختيار تحقيقاً لديمقراطية الموت.
تعددت الأسباب والموت واحد.. بالنسبة للجندي الإسرائيلي لا يهم كيف تموت وإنما المهم هو أن تموت، وهو بحد ذاته يمكن أن يعتبر «إنجازاً» حتى لو كان عرضياً. أما بالنسبة للفلسطيني الذي طالما اعتبر نفسه مشروع شهادة فإن المشكلة تكمن في هؤلاء الأطفال الذين يتجمدون من البرد القارس أو يموتون بسبب الجوع وفقدان الدواء، لم يُستشاروا بشأن «ديمقراطية الموت»، وإنما هم يموتون فحسب من دون أن يكون لهم حول ولا قوة. وبعيداً عن السياسة، يمكن للمجتمع الدولي أن يتساءل عن حقيقة ما إذا كان هؤلاء قد بلغوا سن الرشد منذ لحظة الولادة، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، ألا يحق للفلسطيني كإنسان أن يجد بطانية يلتحف بها وهو يحتضن أطفاله لبث الدفء في عروقهم، أو أن يحصل على خيمة لم تمزقها الرياح وكثرة الترحال؟
اللافت هنا ما ورد على لسان المفوض العام ل«الأونروا» فيليب لازاريني من أن أطفال غزة يتجمدون حتى الموت بسبب الطقس البارد، وعدم وجود مأوى، بينما أعدت الوكالة الدولية نفسها لفصل الشتاء، ويضيف أن «البطانيات والمراتب وغيرها من مستلزمات الشتاء عالقة في المنطقة منذ أشهر بانتظار الموافقة على الدخول إلى غزة». وتوضح المتحدثة باسم الوكالة لويز واتريدغ أن هناك نحو 22 ألف خيمة عالقة في الأردن، و600 ألف بطانية و33 شاحنة محملة بالمراتب كانت راكدة في مصر منذ الصيف، بسبب عدم وجود موافقة إسرائيلية لإدخالها إلى غزة.
حسناً، ثمة لغة أخرى للأرقام تقول إن هناك أكثر من 45 ألف فلسطيني قتلوا منذ بدء الحرب، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، سواء بسبب القصف والتدمير وانعدام كل مقومات الحياة، أو بسبب كارثة المجاعة وتفشي الأوبئة والأمراض وانهيار النظام الصحي.
الخلاصة أن هناك طفلاً فلسطينياً يموت كل ساعة، وفقاً للازاريني، فبماذا يمكن وصف الإبادة الجماعية قبل أن يتوقف قلب آخر طفل فلسطيني عن الخفقان؟ سؤال برسم الضمير الدولي المتحضر من ضحايا لا يزالون يتشبثون بإمكانية انتصار الحياة على الموت.
0 تعليق