لصّ ثري.. أمواله الكتابة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من أجمل الحوارات التي أجريت مع جان جُنيه، تلك التي جرت بينه وبين الصحفية مادلين غوبل (ترجمة: سوسن الضرف)، وذلك في العام 1964، وآنذاك، لم يكن صاحب «أسير عاشق» قد زار بيروت والأردن وعاش فترة مدهشة بالنسبة إليه في المخيمات الفلسطينية، لكنه كان ثرياً من وراء كتبه ومسرحياته، فكان يسافر من مكان إلى آخر، ولكن كأنه فقير أو متسول.
تسأله غوبل: ما معنى حياتك ككاتب متشرّد، ليس من سجن إلى سجن آخر، بل من غرفة في فندق إلى أخرى؟ وتقول له: أنت ثري، ومع ذلك لا تملك شيئاً، لقد أحصيت ممتلكاتك: سبعة كتب، وساعة منبّه، وسترة جلدية، وثلاثة قمصان، وبدلة كاملة، وحقيبة. هذا كل ما عندك. وهنا، يجيبها جُنيه عن هذا السؤال الطويل في ست كلمات، قال لها: ولماذا يكون عندي أكثر من ذلك؟
تسأله غوبل ثانية: ولماذا هذه الكياسة واللطف مع الفقر؟ لماذا هذا الرضا؟ يجيبها جُنيه: وماذا تريدينني أن أفعل بالأشياء وبالترف؟ أنا اكتب، وهذا كل شيء.
تسأله غوبل مرة ثالثة، وفي المحور نفسه قائلة له: إلى أين تقود حياتك وتسير بها؟ يجيبها جُنيه: إلى النسيان. وقال لها إنه يتجاوز كل ذلك بالكتابة.
هذه، إذاً، قضية جان جُنيه: الكتابة.
الثراء، والشهرة، والإعلام، ونقاد الأدب، والسياسة، بل والعالم كلّه، مجرّد هوامش، أما المتن، فهو الكتابة.
إن كان جُنيه في غرفة بفندق «ريتز»، ويحجزها له عادة وكيل أعماله، أو كان على رصيف أو في غرفة شعبية متقشرة الجدران، فهو جُنيه الكاتب.
كان معه مال يديره وكيله، ولكن لم يكن له كما يبدو حسابات مالية في بنوك فخمة، ولم يستثمر ثروته في صفقات أو اقتصادات، وظل بتلك الحقيبة والسترة الجلدية يكتب.
كانت الكتابة في حياة جُنيه هاجسه وقضيته ودمه حين كان لصاً يسرق الخبز لكيلا يقتله الجوع، وكانت الكتابة أيضاً هاجسه حين كان يلعب بالفلوس، والأرجح، أنه لم يلعب لعباً كهذا طوال حياته، طالما أنه يسير بحياته إلى النسيان، كما يقول، غير أن حياة جان جُنيه لم تذهب إلى النسيان. والكتابة هي فقط حالت دون ذلك المدفن الذي اسمه النسيان.
إلى الآن لم يدفن شكسبير، ولا دانتي، ولا لوركا.. كما لا قبور معروفة على وجه الدقة وأين مكانها للكثير ممّن أرادوا أن تسير بهم حيواتهم إلى الغياب، وإذ بهم في رأس الحضور الذي له اسم آخر: الذاكرة.
ثروة ذلك اللص لم تكن المال، بل كانت الكتابة.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق