عبدالله السويجي
لا شيء يجلب الإحباط للنفس البشرية أكثر من اللامبالاة والتجاهل والانزواء، بحيث تصبح الحياة متمحورة على الذات في أضيق الحدود، وأسوأ العبارات يمكن أن تكون في: لا دخل لي، لا يهمني، لا أريد وجع الرأس، لا أحب المشاكل، كل شيء مرسوم. وهذه العبارات تنتزع الإنسان من محيطه وقومه ومجتمعه وبيئته، فيخلق عالمه الخاص الضّيق، ويغرق في الأنانية، ويتوقّف عن العطاء والمساهمة والتفاعل مع قضايا شعبه وبلده وأمته، فيبتعد عن الانخراط في أي نشاط أو فعالية جماعية كي يجنّب نفسه المتاعب!
هذه الأمور التي يبتعد عنها تقع في صميم القوة الناعمة، هذه القوة التي يتسابق العالم، أفراداً ومجتمعات ودولاً، لتكوينها واحترافها وتطويرها، في عالم يضجّ بالمعلومات والقنوات المعرفية، وهذا الضجيج بات فضيلة وليس رذيلة، ونعمة وليس نقمة. فحين نرى العالم المتحضّر يهتم ببناء المكتبات والمؤسسات الثقافية والمعلوماتية والمعرفية، هذا لأنه يدرك أن المعلومة قوة، والمعرفة ثروة، والتسابق الآن هو الوصول بالمجتمعات لتصبح مجتمعات معرفة، ولا يمكن أن تتوفّر المعلومة أو المعرفة إلا بواسطة القراءة.
في العالم المتحضّر لا نجد الناس يقفون في الطابور أو في انتظار الحافلات أو المترو أو في صالات المطارات أو في المقاهي أو عند الطبيب، أو في أي مكان يستدعي الانتظار، لا نجدهم يحملقون ببعضهم، أو يراقبون بعضهم، وإنما نجدهم منكبين على القراءة، قراءة أي شيء، منهم من يقرأ في صحيفة وآخر في كتاب وثالث في تقرير ورابع في رواية أو قصة أو ديوان شعر أو بحث سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، لا أحد يضيّع وقته في النظر إلى الفراغ أو الناس، ولا أحد يتأفّف أو يتذمّر أو يغضب لأن دوره تأخر، أو المعاملة استغرقت وقتاً طويلاً، أو تأخرت وسيلة المواصلات، وهكذا، يملأ وقته فلا يشعر إلا ودوره قد حان.
من هنا، تزدهر سوق بيع الكتب وتنشط دور النشر، ومن الكتب ما وصل مبيعاتها إلى ملايين النسخ، وهذه العادة تجعل الشعوب حية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، تتابع كل شيء. وهذا لا يعني أن الإنسان منهم يقرأ في كل شيء وكل الموضوعات، لكنه يقرأ في مجال اهتمامه، يقرأ ما يحب ويغذّي خياله ويوسع مداركه، وبهذا، تكون لغته طيّعة، فلا يبحث عن كلمة للمعنى المراد توصيله، ولا يتأتئ، هذه الدول تتسيّد المشهد المعرفي في كل مجالاته، وبنت مجتمع المعرفة، وبالتالي امتلكت القوة الناعمة. هذا الانشغال القرائي يساهم في تحديث المعلومة، ومواكبة الحدث، ومعرفة ما يدور في العالم.
ولو نظرنا إلى مجتمعاتنا، نجد بعض الاختصاصيين قد توقفت معارفه عند آخر كتاب قرأه في الجامعة، أو في السنة الأخيرة لتخصصه، ما ينعكس على أدائه في العمل وتطوّره في وظيفته.
في العالم المتحضّر يختار الاختصاصي مجالاً غير مجاله ليحدث توازناً معرفياً ونفسياً وإنسانياً، فنجد الطبيب يهتم بالفن التشكيلي ويمارس الرسم، ونجد المهندس يهتم بالموسيقى وقد يعزف على آلة، ونجد اختصاصي الكمبيوتر يهتم بكتابة الشعر أو الخواطر، وكثيرون احترفوا المجال الموازي نتيجة للشغف، وهذا ما نفتقده في مجتمعاتنا العربية، وقد يكون موجوداً ومتوفّراً، إنما ليس بالشكل المرضي، فيرفّه الاختصاصي عن نفسه عن طريق تضييع وقته في أماكن اللهو وغيرها. نحن لا ننادي بسجن الإنسان لنفسه، وأن يتحوّل إلى آلة، وإنما أن يُحدث التوازن بشكل معقول ومنطقي وذي فائدة على نفسه وعلى المجتمع.
ويمكننا النظر إلى السياسي على أنه اختصاصي، ونرى أنه الأجدر والأولى بالقراءة في كل شيء، معظم السياسيين في الخارج يقرأون الروايات وفي التاريخ والجغرافيا، وكثيرون منهم يقرأون في علم الأجناس البشرية، وتاريخ المجتمعات الإنسانية، ومنهم من يقرأ في العلوم التطبيقية أو الإنسانية وغيرها.
ونحن نعيش في عصر تدفّق المعلومات وثورة التكنولوجيا والاتصال، ونحن نشهد الصراعات والأحلاف والنزاعات التي تجعل العالم على صفيح ساخن، من الصعب أن نغض الطرف وندّعي التّجاهل، فلا نتابع الأخبار بحجة تجنّب رؤية المشاهد المؤذية المؤلمة الدموية، بينما يكون هؤلاء أخوتنا في العروبة والدين والإنسانية، وغض الطرف عنهم هو خيانة لضمائرنا وإحساسنا الإنساني، فماذا لو تألّمنا لآلام هؤلاء، وماذا لو تعاطفنا، ولو وجدانياً، مع هؤلاء. فهل يُعقل أن تهب المؤسسة الرسمية، على سبيل المثال، لنجدة المكلومين الفقراء المشرّدين، ونحن كأفراد نتجاهل معاناتهم.
وأنا هنا أتحدث بشكل عام، وعلى الصعيد الإنساني، لأنني أقابل أناساً يقولون لي، حين أفتح معهم موضوعاً عاماً، إنّهم لم يشاهدوا نشرة أخبار منذ أسبوعين، وهذا لعمري قمة عدم الاكتراث، إذ على الأقل، يجب متابعة ما يحدث في داخل الوطن، من قوانين ومشاريع وخطط وسياسات، وموقف الدولة من الأحداث الإقليمية والعالمية، وهو أضعف الإيمان، وهي عملية غير مكلفة، يكفي متابعة أحد التطبيقات الإخبارية، أو وكالة أنباء بلدك، حتى تحيط بكل شيء، وهذه الإحاطة هي تكوين المعلومة، أي تكوين القوة الناعمة، التي هي المعرفة، وجامع المعرفة هو خير من يفهم معنى الولاء والانتماء.
0 تعليق