كان نجيب محفوظ ابن عشر سنوات فحسب، حينما قرأ رواية «بن جونسون» بتوصية من أحد زملائه في المدرسة الابتدائية، فكانت تلك، تجربة غيّرت حياته كلها..
الفقرة أعلاه جاءت في مقدمة حوار «تشارلوت البشيراوي» مع نجيب محفوظ في مجلة «باريس ريفيو» عدد صيف 1992، ونستفيد من الحوار أن محفوظ في المرحلة الثانوية من عمره وقع في غواية طه حسين، وفي مرحلة الجامعة كان قرأ سلامة موسى، وفي السابعة عشرة من عمره بدأ الكتابة..
القراءة، قبل الكتابة، وفي سن الطفولة، هي التي صنعت (نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا) صاحب (بداية ونهاية) التي نشرها قبل أكثر من ستين عاماً (1960)، غير أنه لم تكن هناك نهاية روائية لصاحب (الحرافيش)، بل كان في كل عمل روائي له بداية..
اللص والكلاب بداية لخان الخليلي، والسمان والخريف بداية لثرثرة فوق النيل، وهكذا ضمن متواليات روائية ومن كل نهاية، كانت تولد بداية.. وفي كل مرة تقرأ فيها محفوظ، تعود إلى ذلك الطفل في العاشرة يقرأ الروايات الأكبر منه..
لم تكن بيئة القراءة تلك لصاحب نوبل متوفرة لكل أبناء جيله، وحتى لو كانت القراءة بيئة ثقافية عامة في مصر آنذاك، أي في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، فإن نجيب محفوظ واحداً فقط هو من كان أو يكون.
الطالب زميل محفوظ، والذي أوصاه بأن يقرأ رواية، لا نعرف اسمه الآن، ولا مهنته، ولا مكانه في الذاكرة، لقد كان صديق محفوظ ذلك قارئاً ذكياً، ولكن قراءته تلك لم تجعل منه نجيب محفوظ.
القراءة نشاط أو طاقة أو شكل من أشكال الإلهام الذي يغير القارئ من داخله ببطء وتدرّج إلى أن يظهر هذا التغيير على الخارج.. خارج القارئ الذي يتحوّل إلى كاتب.
القراءة بحسب قصة نجيب محفوظ وهو في العاشرة من عمره حين كان في الصف الرابع الابتدائي هي فرح الطفولة الفطري عندما تلتقي الكلمات واللغة والصور والحروف والخطوط مع مخيّلة الطفل، وتشكل ذلك الكائن القارئ.
القراءة تشكيل للإنسان منذ طفولته وإلى شيخوخته، ولا يتوقف هذا التشكيل، لا تتوقف تلك الطاقة المعنوية والمادية التي اسمها: القراءة.
القراءة جلسة خاصة مع كائن يشبهك هو الكتاب. إنه كائن صامت قد يشبهك، وقد لا يشبهك، وأنت حين تقرأ، لا تضع أمام عينيك أنه لا بد من أن تصبح روائياً كبيراً، بل تشعر بأنك مع تلك الأشياء الجميلة، والكائنات الأجمل مع الهواء والشجر والماء.
درس صغير سريع في القراءة المبكرة من نجيب محفوظ كاتب الرواية التي تبدأ ولا تنتهي.
[email protected]
0 تعليق