عبد الإله بلقزيز
كلُّ نقد لمرجعيات الفكر مفيدٌ لهذا الفكر نفسه، لأنّه إنْ هو لم يُحرّرِ الفكرَ من اليقين الأعمى بما يتلقّاه من حقائقَ معلَّبَة فهو، في الحدّ الأدنى، يخفِّف من شدّة ذلك اليقين على الوعي ويروّض الوعيَ إيّاهُ على إتيان فعل المساءلة والتّمحيص والاعتياد عليه.
في حُكم المسلَّم به - في الفكر الإنسانيّ الحديث - أنّ التّفكير المنتِج والنّاجع هو، على الحقيقة، ذلك الذي يستصحبُ النّقد والتَّسآلَ فلا يَدَع مجالاً لأن يَبْرَحه، أو حتّى لأن يَبْهَت أو يشحُبَ فيه، إذْ هو وحده الذي يقي التّفكير من مزالق الاطمئنان إلى الجاهز والمستَبْده، ويحافظ له على طاقة السَّبر والتّحليل والنّظر إلى ما وراء ظاهر الأشياء، وبكلمة، يحافظ له على ما تستقيم به عمليّةُ التّفكير بما هي عمليّةُ انتقالٍ من الملاحظة والانطباع وتَلقّي المُعطى الجاهز إلى اكتناه ما هو محجوبٌ في الموضوع المدروس الذي هو كُنْهُه: وهذا، على الحقيقة، معنى الفكر. وهكذا، مثلما يتحصّن الوعيُ بسلاح النّقد وهو يفكّر وينتِج معارفَ حول الظّواهر، كذلك يحيط نفسه بالوقاية المعرفيّة الضّرورية لئلا يقع ضحيّة ما يتلقّاه من أفكارٍ - فيها ما فيها من وجوه الاشتباه - وكأنّها حقائق مطلقة عارية عن الشّكّ.
على أنّ نقدَ الفكر مرجعيّاتِه المنتَهَلَ منها ليس واحداً، وإنّما هو درجاتٌ ووجوهٌ عدّة يكفينا أن نسلِّط الضّوء على اثنين منها هُما الأظْهَر: النّقد الذي يدور على مرجعٍ واحدٍ من دون سواه (هو في الغالب المرجع الذي لا يعتمده الوعيُ النّاقد ولا يصْدُر عنه)، والنّقد الذي يدور على مرجعيْن مختلفين معاً. والحقُّ أنّ زاوية نظر النّاقد إلى موضوعه تختلف في الحالتين، ومعها يختلف معنى النّقد كما سنرى.
النّوع الأوّل من النّقد هو الأكثر شيوعاً في الأعمّ الأغلب من الثّقافات ولدى السّواد الأعظم من المفكّرين والباحثين. لا يضع النّاقد - في هذا النّوع من النّقد - مرجعَه الفكريّ، الذي يمتَح منه، موضعَ نظرٍ وفحصٍ ومراجعةٍ ولا هو يسائل مفاهيمَه وبراديغماته، من أجل تصويبه وتجديدِه أو إعادة بنائه، ولا من أجل أيّ شيءٍ آخر على هذه الشّاكلة، وإنّما الغالبُ عليه أن يسكتَ عنه فلا يرى عوَجاً فيه ولا مثْلَبة، بل هو ينطلق منه ويَفي بِما تقضي به معطياتُه المعرفيّة، منصرفاً إلى نقدِ ما يَعُدُّهُ مرجعاً مغلوطاً أو بائداً أو غيرَ مرغوب.
قد ينتمي النّقد ذاك إلى السّجال والمضاربة وإلى إرادة التّشويه والحطّ والمَحْو، فينغمس في لعبة البحث عن كلِّ منْقَصةٍ في ذلك المرجع ليَعيبها عليه وعلى مَن توسَّلوه من أهل الرّأي، لكنّه قد ينتمي، من وجْهٍ ثانٍ، إلى النّقد الرّصين الذي ينتقي أدواته المفهوميّةَ والمنهجيّةَ بدقّة، ويجتهد في التّحليل وفي بيان المَعاطِب والعوائق فيه وحدودِ الإمكانِ المعرفيّ الذي يُضْمِره... إلخ.
وهو في هذه الحال يكون نقداً بنّاءً ومطلوباً بحيث يمكن البناءُ عليه. على أنّه، في الحالتين، يظلّ نقداً منقوصاً لأنّه أحاديّ: يقع على الموضوع الواحد، أو المرجع الواحد، كما لو أنّ المَعْطَبَ فيه وحده من غير سواه، فيما يتجاهل ما قد يعتور مرجعَه - هو- الذي ينطلق منه من خَلَلٍ أو قصور. والحقُّ أنّ هذا الضّرب من النّقد الأحاديّ هو السّائد في الفكر المعاصر.
يختلف النّوع الثّاني من النّقد لجهة شمولِه المرجعيّات كافّة أو - على الأقل - المرجعيّتين الرّئيستين اللّتين يقع انقسامُ تيّارات الفكر على حدودهما. إنّه، في حالة الثّقافة العربيّة مع مرجعيّتيها (التّراث والغرب)، النّقد الذي يجوز نعته باسم النّقد المزدوج، حيث يتناول - بالتّحليل والتّفكيك - منظومتيْن من الفكر صارتا سلطتين مرجعيّتين للفكر العربيّ، ينقسم عليهما هذا الفكرُ إلى مقالتيْن لفريقين ينتحل كلٌّ منهما لنفسه مرجعاً دون آخر، وينتصر له، بل يفكّر من داخل معطياته المعرفيّة.
من تحصيل الحاصل أنّ مثل هذا النّقد المزدوج غيرُ ممكنٍ أو متاحٍ لمن يفكّر من داخل معطياتِ مرجعيّةٍ فكريّةٍ واحدة، إذْ قصارى ما يستطيعه هذا هو أن يمارس النّقد بمعناه الأوّل، أي مكتفياً به حين يتعلّق أمرُه بمرجعيّةٍ غير مرجعيّته. ولذلك، لا يُتاح مثلُ ذلك النّقد المزدوج إلا لمن نجح في إنتاج مساحةٍ من التّحرُّر من سلطان كلٍّ من المرجعيْن عليه.
نعم، ليس شرطاً أن يكون لِمن يمارس هذا النّقد المزدوج موقفٌ عدميّ من المرجعين حتّى يقيم معهما مسافة، ذلك أنّ النّظرة العدميّة ليست من النّقد في شيء، بل هي نقيضُه لأنّ مبْناها على نزعةٍ لا تاريخيّة، ولأنّها ليست تحريراً للوعي من سلطة أي مرجعٍ عليه، بل منتهاها إلى نقْض كلّ مرجعيّة وإنتاج مزْعمةٍ، هي في مقام المغالطة، تقول بإمكان تأسيس الفكر على بدايات صِفْريّة!
يُحرِّر النّقدُ المزدوج هذا وعيَ صاحبه من اليقينيّات الجامدة التي يأخذُه إليها انشدادُه الأعمى إلى مرجعه، والتّسليمُ المطلق بصحته، وإباءتُه الشّديدة عَرْضَ يقينيّاته تلك على المساءلة والاختبار والفحص. أمّا الجدير بأن يُلْحَظ في ذلك التّحرُّر المعرفيّ من سطوة المرجعيْن، فهو أنّه يكون تحرُّراً ميسوراً كلما كان مقروناً بمعرفةٍ دقيقة بمعطيات الفكر فيهما. ليس من نقْدٍ فعليّ، على الحقيقة، إلا ما كان محمولاً على معرفة المنقود لئلا يكون فعلاً ممتنعاً أو متعذِّراً بحاجزِ الجهل، ولئلا يشطَطّ.
[email protected]
0 تعليق