القوة الناعمة.. ورحلة البحث عن الإنسان - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

تلقيتُ دعوةً كريمة لحضور احتفالية «صناع الأمل» لتكريم أصحاب العطاء في الوطن العربي، والتي أُقيمت في 23 فبراير في أحد مسارح دبي، بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله.
وهذه هي الدورة الخامسة لمبادرة «صناع الأمل»، التي أطلقها بو راشد في العام 2016. وقد ترجم شيخنا الجليل عن نفسه مفسراً مبادرته الرائعة بأنّها جاءت للبرهنة على «أن أي شخص، مهما قلّ ماله أو منصبه، يمكن أن يكون إنساناً عظيماً في العطاء. أي شخص عادي يمكن أن يسبق بأعماله الإنسانية آلافاً من رجال الأعمال من أصحاب الملايين، لأن... لا علاقة للعطاء بكثرة المال».
وقد فلسف صاحب مبادرة «صناع الأمل» الشيخ محمد بن راشد قيمة العطاء أو الكرم بأنها جزءٌ كبير من رحلة البحث عن الإنسان. وفي ذلك، يؤكد سموه أنّ «الانشغالات الكثيرة والمتعددة لا يجب أن توقفنا عن البحث عن الإنسان في داخل كل منّا»، عن طريق مدّ يد الخير وتقديم العون للآخرين. وفي سيرته الذاتية «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً»، يقرر بو راشد «عندما سألوني لماذا أطلقت (صناع الأمل) قلت لهم نبحث عن الإنسان في داخل كل إنسان». ويضيف سموه جازماً أنه لم يسمع في حياته المديدة، بإذنه تعالى «عن شخص افتقر بسبب العطاء»، وأننا «أحوج للعطاء من المحتاج؛ تعطي فيعطيك ربك، تتواضع فيرفعك، ترحم الناس فيحبك ويسعدك». ويحذر سموه من أن: «الذي يدير ظهره لآلام أخيه الإنسان، لا يستحق شرف الانتماء إلى البشر».
ومن حُسن الطالع أن يتزامن الحفل الختامي لمبادرة «صناع الأمل» مع صدور تقرير القوة الناعمة العالمي لعام 2025، الذي تبوّأت فيه دولة الإمارات المرتبة العاشرة عالمياً بين كافة أعضاء الأمم المتحدة (193 دولة)، واحتلت المركز الأول بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، متفوقةً على أمم لها باع طويلة في مصادر القوة الناعمة، وعلى رأسها الدول الإسكندنافية وكثير من دول غرب أوروبا واليابان ودول الحضارات القديمة كمصر واليونان والهند وغيرها.
وقد كان هذا التزامن بين الاحتفاء الإماراتي بـ «صناع الأمل» من مختلف دول العالم وصدور تقرير القوة الناعمة لافتاً للنظر وموحياً بالفِكَر. فمن دون الخوض في تفاصيل هذا التقرير العالمي المهم، أود الإشارة إلى أنّ دولة الإمارات حصدت المركز الرابع عالمياً في الكرم والعطاء. وفي رأيي، يشكل الكرم والعطاء أهم رافد للقوة الناعمة لدولة الإمارات، بل إنّ ما توفره دولة الإمارات من نموذج في هذا الخصوص صار مُلهماً للعديد من الدول داخل المنطقة وخارجها.
ويرتبط الكرم والعطاء بقيمة التسامح الإنساني، التي تُعتبر إرثاً ثقافياً في مجتمع الإمارات منذ حضارة ماجان وأختها ميلوخا أو ملوخا قبل خمسة آلاف سنة، مروراً بالتقاليد القبلية الأصيلة التي تجعل من الكرم والإيثار وعدم التخلي عن الإخوان والأصدقاء وقت الشدة والتكاتف والشهامة من أهم معايير الشرف القبلي، وصولاً إلى الحضارة العربية الإسلامية التي أعلت قيم التكافل الإنساني والتضامن الإسلامي والإنصاف. والأهم من ذلك هو حرص الآباء الأوائل، وعلى رأسهم الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وخلفاؤه من بعده، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، على ترسيخ قيمة التسامح كقيمة مظلة في مجتمع الإمارات، ترتبط بها قيم فرعية أخرى وفي مقدمتها الكرم والعطاء والانفتاح.
والواقع أنّ البعد الإنساني يُعد مكوناً أصيلاً في النموذج التنموي الإماراتي؛ فقد أصبحت دولة الإمارات من كبار المانحين الدوليين، سواء فيما يتعلق بالمساعدات الإنمائية أو الإنسانية أو الخيرية.
وقد بيّن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في أكثر من مناسبة، أنّ دولة الإمارات، فيما يتعلق بتقديم المساعدات الخارجية، تواصل «نهج المغفور له الوالد الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي جعل الجانب الإنساني بُعداً أصيلاً في السياسة الخارجية الإماراتية». كما يستند الدور الإنساني لدولة الإمارات إلى إطارٍ فلسفي، يجمع مُركباً مبتكراً من عناصر إنسانية عالمية، تتجسد في مبدأي التضامن الإنساني والتعددية الثقافية، ومقومات إسلامية موجِهة وقيمٍ قبلية أصيلة، كما أشرتُ آنفاً.
والخلاصة أنه إذا اتبعنا المنظور الفكري والفلسفي لصاحب «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً»، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، نجد أن «البحث عن الإنسان» هو ما يُفسر الكثير والكثير من عناصر النموذج التنموي الإماراتي الفريد، القائم على التعددية الثقافية والتسامح الإنساني والانفتاح على حضارات العالم وشعوبه. كما أنّ «البحث عن الإنسان» هو الذي يفسر، في التحليل الأخير، صورة دولة الإمارات الإيجابية في الخارج، وشغلها مكانة متقدمة بين أمم عريقة في مصادر القوة الناعمة كونها قادرة على العطاء، وتستطيع التأثير في تفضيلات وسلوكيات الدول الأخرى في الساحة الدولية، عن طريق الإقناع وضرب المثل في المجالات التنموية والإنسانية.

[email protected]* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

أخبار ذات صلة

0 تعليق