هل من حرج على شركات الإنتاج الفني إذا سألت نفسها: هل ملّت الملايين الأربعمئة رتابة الشاشات في الشهر الفضيل؟ أليس المنتجون بأهل حساب وكتاب؟ أمّا «الكتاب» فقد وصف رمضان بأنه «خير من ألف شهر»، وأمّا الحساب فألف شهر قمريّ، تساوي ثمانين سنةً شمسيّةً. هل هذا الرقم الضخم يُكرَّم بمثل أكثرية ما تنوء بعِبئه الأذواق سنين؟
حين يرى الطبيب العاقل الداء مستفحلاً لا يضيع الوقت في تقريع المريض لإهماله قواعد الصحة. ما هي مصابيح الأفكار لنزيّن بها سماء الفن في رمضان، ونجعلها رجوماً للهبوط؟ ما الجديد يا حَمَلة رايات الإبداع؟ سيتذكّر أهل الدعابة بيت المتنبي: «إن السلاح جميع الناس تحملهُ.. وليس كلّ ذوات المِخلب السّبُعُ».
الإبداع يحتاج إلى فكر يَعتدّ بقدراته ومهاراته. هل كان الذين أبدعوا الروائع الكلاسيكية، من جلجامش، الإلياذة، رسالة الغفران، الشاهنامه، منطق الطير، إلى ما بعد الكوميديا الإلهية... ينتظرون عدد المشاهدات واللايكات؟ لقد كانوا يحوكون لروائعهم وشاح الخلود. أبو الطيّب: «وترْكُك في الدنيا دوّياً...»، جلال الدين: «حتى مئة قرن، سيظل هذا العالم يدور على آهاتي، ويلفّ على حسراتي». في القرن الثالث عشر، كان خياله في الألف الثاني عشر. جُلّ الإنتاج الذي يفرّخونه في أحد عشر شهراً يشبه الفراشة التي ترفرف يوماً. يقيناً، كان بيتهوفن، في السيمفونية التاسعة، يقول لنفسه، مثل كل أولئك العظماء: «اكدح في إبداعك كأنك تعيش إلى الأبد، فإن لم تفعل فسوف يموت عملك قبل الغد».
هل في هذا جديد غير المكرور؟ هذه باقة أفكار. الإمكانات لا حصر لها، فالمهم تغيير طريقة التفكير في الإبداع أوّلاً، ثم في احترام الأمّة. إذا كانت المسلسلات شكلاً لا يجدون له تبديلاً، فما المانع من بنائها على منظومات قيم فكرية تنموية نهضوية؟ هل صار الإبداع صنواً للانحلال والابتذال؟ في المجتمعات العربية سلبيات ولا شك، تشكّل مواد خصبةً للكوميديا الهادفة. الابتهالات والإنشاد الديني، تجمّدت وتسمّرت في ما كانت فيه قبل سبعين سنةً وأكثر. ما أروع أن يكتشف الموسيقيون إبداع الأشعار الصوفية بتوزيع أوركسترالي حديث. للأتراك والإيرانيين تجارب متميّزة في هذا المجال، ولها جمهور وسيع. لا بدّ من تغيير بوصلة الإنتاج الفني، وهي تستدعي أساساً تغيير النظرة إلى احترام هوية الأمّة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الشعرية: كأنّ شاعراً ساخراً قال: «رمضانُ أقبلَ أَطلِقِ الإنتاجَا.. وفنوننا سَلْقٌ فهاتِ دجاجَا... لا تخجلوا من أيّ فنّ هابطٍ.. طبْخُ الحصى قد أصبح المنهاجَا... لو كان للجمهور رأيٌ حاسمٌ.. إنتاجكم ما غادر الأدراجَا».
[email protected]
خواطر في تكريم الكريم - ستاد العرب

خواطر في تكريم الكريم - ستاد العرب
0 تعليق