هل حاولتَ الإحاطة بمدى تنوّع فنون الكتابة لدى قدمائنا، في العصر العبّاسي مثلاً؟ سيقول المتسرّع: طبعاً، فلم تكن لهم شبكة ووسائط سمعية بصرية وتواصل اجتماعي، وفنون مسرحية، وهلم وسائل. معذرةً، المقصد شيء آخر، مع أن المداخلة ليست كلّها في غير محلّها.
بين القرنين الثاني والسادس الهجريين، لا حصر لألوان فنون الكتابة شعراً ونثراً؟ اختراع الأجناس الأدبية، كنظريات وأساليب جديدة مستحدثة لا سوابق لها، هو فنّ قائم بذاته، بل إنه يستحق أن يُعَدّ تكنولوجيا لغويةً مبتكرةً، تماماً مثل عبقرية الجاهليّين المجهولين الذين اخترعوا إيقاعات الأوزان الشعرية. أولئك أهل لجائزة نوبل في الشعر والموسيقى معاً.
في يوم من أيّام الجاهلية فوجئ الناس في قبيلة أو قبائل بشخص يقول كلاماً جميلاً على وزن «فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلُ»، وكان على الأذن العربيّة أن تنتظر ظهور الخليل الفراهيدي في العصر الإسلامي ليُطلق عليه اسم البحر الطويل. تخيّل إبداع الذين اخترعوا ستة عشر بحراً، ظلّت قدود القصائد ميّادةً ميّاسةً ميّالةً على إيقاعاتها ستة عشر قرناً. أليس في ذلك عبرة من ذوات الجبين النديّ لشعراء زماننا، نخصّ الذين يتقنّعون بالإيقاع الداخلي في الشعر، يتذرّعون بأنه كالقلب الخافق داخل القفص الصدري.
لكن ثراء منوعات الشعر لا ينحصر في تعدّد الإيقاعات، فأغراض القصائد هي الأخرى باقة منوعات. ما يسترعي التأمل هو أنه في تلك القرون المحدودة، حدث ما يشبه الألعاب الناريّة في الأساليب وألوان إبداعها. ثمّة مسافات نجومية بين أسلوبي أبي العلاء وأبي نواس، بين المتنبّي وأبي العتاهية، بين صريع الغواني وابن الرومي. طبيعة الأندلس أضفت على الشعر أجواءً مختلفةً في الموسيقى والزخرفة.
لم يدع الشعر مجالاً لم يدخله حتى اللعب بالفواكه والثمار والألغاز وجمباز المفردات، كالبيت الذي يُقرأ من اليمين إلى اليسار والعكس، والبيت الذي يكون مدحاً، وهجاءً عند عكسه. أمّا في النثر ومذاهبه فالمكتبة العربية لها نخبة من طراز شوقي ضيف. لا حدود لمنوعات الإبداع في مستويات أسلوبية لا تحصى، من المعرّي ورسالة غفرانه، إلى الجاحظ، والتوحيدي، والحريري، وكان فيض الرمزية في بدائع نصوص المتصوفين.
لزوم ما يلزم: النتيجة التربوية: هل كان كل ذلك البحر الزاخر بالإبداع ليتسنّى لولا الإلمام بأسرار العربية؟ فإذا تجلّت الموهبة عرفت كيف تقطف روائع الإبداع. كيف شحّت ينابيع الابتكار العربي اليوم.
[email protected]
0 تعليق