أكتب على ارتفاع 39 ألف قدم، وبين الغيوم، وها قد أنهت المضيفة تعليمات السلامة، واستوت الطائرة في مسارها الجوي، وفي كل ثانية زمنية أبتعد عن ذلك الكيان الأرضي الذي اسمه: الوطن، وهي تسمية عاطفية وليست جغرافية، وهكذا، عَوّض بعض الشعراء أوطانهم بالمنفى، أو بالكلمات، عبد الوهاب البياتي كان يقول: «وطني المنفى.. منفاي الكلمات».
ما هي خصيصة الكتابة في الطائرة؟ لا شيء ممّيزاً عن الكتابة وأنت على الأرض، سوى أنك تكتب في الجوّ وأنت طائر، وبلا أجنحة، وأنت في تلك اللحظة العلوية أقرب إلى الله. شيء ما صوفيّ أو روحاني يعتريك وأنت تمسك بالقلم، وتفرد القليل من أوراقك على صفيحة الطعام المعلّقة في المقعد الذي أمامك. تتهيأ للكتابة، وقد انسكب الضوء على الورق من نافذة الطائرة، وأنت تأخذ راحتك، فلا أحد إلى جوارك. رحلة خفيفة نظيفة، وبعض العزلة بين الغيوم.
إنها الكتابة، إذاً، هذا المرافق الذي يلازمك في الأرض، وفي السماء. وفيما أنت طائر وتكتب: تتساءل من سذاجة الطفل أو طفولية الشاعر: هل تكتب النسور والصقور؟ تلك الطيور الجوية بامتياز، والأكثر من غيرها في الابتعاد عن أوطانها إذا اقتضى الأمر: «وطني المنفى، منفاي الكلمات».
إنها الكتابة، هذه الحفلة المتنقّلة، وإذ تلتقي بذاتك الآن وأنت على هذا الارتفاع الأبيض بلون الغيوم تستعيد الأماكن التي كتبت فيها: البيوت، والمقاهي، والفنادق، وفي كل مرة حفلة متنقّلة.. تتذكر أنك لم تفرّط بقلمك وأوراقك في كل سفر، وحتى لو كانت أسفارك قليلة ومتواضعة، فأنت دائماً في حفلة. الكتابة متعتك وشغفك وحفلتك في القاهرة، في بيروت، في دمشق، في بغداد، مرة كنت تكتب في مطعم شعبي رصيفي، ومرة كنت تكتب على طاولة ثقيلة أنيقة في فندق خمس نجوم، ثم لا شأن لك بالفندق، بقدر ما كنت دائماً معنياً بالنجوم. كتبت في حافلة، كتبت في باخرة، كتبت في بستان، وللكتابة في البستان إيحاءٌ صوفي.
كتبت في مرفأ، وكتبت في مقهى على البحر، كتبت في كهف، وتحت شجرة، وعلى رأس جبل. كتبت تحت أعمدة النور، وفي غرف الانتظار، وفي الليل والنهار.
تلك كانت كتابة الأرض. كتابة المكان واللّامكان. الكتابة الاحتفالية المتنقّلة، في حين أن الكتابة في الجوّ هي كتابة المكان الواحد والوحيد. وأنت هنا في جوف هذا الكائن الحديدي الجوّي ذي المسار المبرمج، والرحلة المُغلق عليها بالأبواب والنوافذ.
في الأرض حرّيتك. والأرض حفلتك وهدية السماء إليك.
الأرض كتابك، والأرض مرجعك، وحتى إنك عندما تعلمت الطيران، إنما تعلمته أولاً على الأرض.
الكتابة في الجوّ حالة شعرية، هذا صحيح تماماً، غير أن الكتابة على الأرض حالة أمومية، طمأنينة، وثبات، وقوّة.
في الأرض تتذكّر، وفي الجوّ تنسى، أو هكذا يُخيل إليك وأنت تكتب هذه الكلمات ببطء، في حين أنك على الأرض تكتب بسرعة.
الأرض أمك وأمانك. جميع الكتب والأقلام والحضارات والاختراعات نشأت في الأرض. اكتب في الأرض واترك الريش للصقور والنسور.
[email protected]
اترك الريش للصقور والنسور - ستاد العرب

اترك الريش للصقور والنسور - ستاد العرب
0 تعليق