اختفاء الإبداع - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

يحيى زكي

يتطلب الإبداع في مختلف المجالات، قدراً من التحديات التي تواجه الإنسان، فيبحث عن حلول لمواجهتها، هذه الحلول تُخرج في كثير من الأحيان بعض الأفكار المبدعة، وهناك من يرى أن الإبداع يحتاج لكي تشتعل جذوته إلى اتجاهات قوية متناقضة ومتصارعة، حتى يثمر النقاش حولها أفكاراً خلّاقة تضيف إلى الفرد والمجتمع.
في كتابه «المجتمع المنحط»، يرى روس داوثت أن الغرب توقف عن الإبداع منذ نهاية حقبة التسعينات من القرن الماضي، وأن كل ما شهدته الساحة العلمية والاقتصادية في أعقاب تلك المرحلة ما هو إلا بعض تبعات مرحلة الستينات الصاخبة بالأفكار والإيديولوجيات.
والواقع أن المتابع لمسار الأحداث والوقائع في القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، سيكتشف أننا إذا أخذنا في الاعتبار بأحد الاتجاهين السابقين في تحديد الظروف التي يتطلبها الإبداع، سيكتشف أن البشر، خلال نصف القرن الأخير، ربما يكونون توقفوا عن الإبداع الحقيقي ليس في الغرب وحسب، كما يرى داوثت، بل في العالم كله.
لقد اختفت الأفكار المتناقضة التي تحث على الصراع بين تيارات متباينة أو تدفع إلى النقاش، وذلك في مختلف الحقول. في خمسينات القرن العشرين كنا نرى هذه الأفكار في كل المجالات، كانت هناك الرأسمالية في مواجهة الاشتراكية، والنظام الشمولي في مقابل النظام الحر، واقتصاد السوق أمام الاقتصاد الموجّه، ودول تتبنى التخطيط المنظم، بينما لا تلقي له دول أخرى أي التفات.
ولم يقتصر الأمر على السياسة والاقتصاد وشكل نظم الحكم، بل امتد إلى الثقافة، حيث دارت العديد من المعارك في مختلف البلدان حول: هل الثقافة منتج فردي نتيجة للتربية والتعليم ومختلف القيم أم هي نتاج مباشر للوضع الاقتصادي والاجتماعي؟ وفي الفن دار جدل حول: هل نصنع الفن لإمتاع الذائقة الفردية أم يجب أن نعّبر عن قضايا وهموم المجتمع؟ وفي مناهج البحث الاجتماعي: هل نعتمد على الأرقام والإحصائيات أم نركن إلى التحليل الفكري؟
لم تكن كل هذه التناقضات خاصة بالأنظمة والنخب الاجتماعية والثقافية وحسب، ولكنها أثّرت في الأفراد أيضاً، وخاصة في علاقتهم بالمجتمع، حيث دار حوار مماثل حول: مدى حرية الفرد، وهل يتصرف ويسلك ويتحرك وفق حرية مطلقة أم أن هناك قيوداً وقوانين مجتمعية عليه الالتزام بها؟
في كل هذه الأطروحات كانت هناك تناقضات، وكانت هناك أيضاً تحديات، ومنهما معاً نشأ الإبداع وازدهر، وخلف كل نشاط إنساني وقفت فكرة تحكم رأي الفرد وتؤثر في سلوكه ورؤيته للعالم وعلاقته بالمجتمع والمحيطين به، والأهم تطلعه إلى المستقبل والتأثير في إرادته لمواجهة العقبات التي تعترض طريقه. هذه الصورة أيضاً منحت المناخ العام تنوعاً كبيراً، فالأفكار المختلفة كلها متجاورة، تتحاور وتتصارع، وينشأ عنها أطروحات جديدة، لم يكن هناك رأي واحد ولم يهيمن «الإنسان ذو البعد الواحد» وفق تعبير المفكر هربرت ماركوز.
إن الظروف التي تولّد الإبداع تكاد تختفي الآن في ظل عالم تصنعه رؤى سياسية واقتصادية أحادية التوجه، والإبداع في العمق ليس رفاهية ولكنه أكثر ما يميزنا كبشر.

أخبار ذات صلة

0 تعليق