د. باسمة يونس
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية لخدمة البشر وتسهيل مهامهم، بل بات الحديث يدور حوله كمنافس للبشر وأحياناً كبديل للإنسان بشكل كامل، ويطرح سؤال حول إمكانية قيام الذكاء الاصطناعي بمهام فنية وثقافية تخصص فيها الإنسان، مثل الترجمة الأدبية على سبيل المثال، علماً أنه لو امتلك المقدرة على ذلك سيُعد فتحاً ثقافياً لا يمكن التقليل من شأنه، فمجرد فكرة ترجمة ملايين الأعمال وإتاحتها للعالم بجميع اللغات أمر أشبه بحلم يصعب تصديقه، فهل يمكنه حقاً أن يحلّ محل المترجم الأدبي، ونحن نعلم أن الترجمة الأدبية شكل من أشكال الفن، يضفي فيها المترجم بصمته الخاصة من خلال أسلوبه وتفسيره الشخصي للنص، إضافة إلى ما تتطلبه من مهارات وإحساس لغوي وثقافي عالٍ، وما يضيفه المترجم الأدبي من بُعد إبداعي يثري النص بعمل موازٍ للعمل الأصلي وليس مجرد نقل للغة؟
وعند إجراء مقارنة بسيطة بين مهمة المترجم الأدبي والذكاء الاصطناعي، يسعى المترجم لنقل روح النص وأبعاده الجمالية والدلالية من لغة إلى أخرى، وهو أمر يتطلب فهماً عميقاً للغة الأصلية والثقافة التي أنتجت النص، ويتجاوز الحرفية إلى القدرة على تأويل النص وإعادة صياغته بشكل يحافظ على جماليته وعمقه، بينما يعمل الذكاء الاصطناعي عمل معاجم اللغة في توفير معلومات لغوية تساعد على فهم الكلمات والجمل ومعانيها، ويتيح للمستخدم الوصول إلى معاني الكلمات والمفردات بدقة ويعتمد على قواعد بيانات وقوانين وأنماط لغوية محفوظة مسبقاً دون وجود أي إحساس أو إدراك حقيقي للمعنى الثقافي.
ويستخدم المترجم أساليب لغوية غنية ومتنوعة، مثل الاستعارات والتشبيهات والكنايات، ولديه القدرة على تفسير هذه الأساليب ونقلها بشكل يضمن وصول الفكرة نفسها إلى القارئ، ما يشكل تحدياً صعباً أمام الذكاء الاصطناعي الذي إن أراد ترجمة عبارات مجازية فستكون الترجمة حرفية، ما يؤدي إلى فقدان المعنى المقصود أو الرسالة العميقة خلف النص.
ويتبع الذكاء الاصطناعي خوارزميات وقواعد محددة تميزه في التعامل مع التراكيب اللغوية البسيطة والواضحة، ولكنه قد يعاني تحديد السياقات الأدبية المعقدة التي يمتلك المترجم مرونة في التعامل معها والقدرة على تغيير صياغتها أو حتى حذف أو إضافة عناصر لتحسين الترجمة، وهو أمر لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به من دون إشراف إنساني.
ومع أن الذكاء الاصطناعي يحقق تقدماً كبيراً في مجال الترجمة بإتاحته الترجمات السريعة ما يجعله مفيداً للأغراض العامة، وتوفير ترجمة أولية للنصوص الأدبية، لكنه لا يصلح مهما حاولنا ليكون بديلاً للمترجم الأدبي، إذ تظل النصوص بحاجة إلى مراجعة وإعادة صياغة من قبل متخصص بشري.
ورغم التطور، يظل الذكاء الاصطناعي غير قادر على التعامل مع العديد من التحديات التي يواجهها المترجم الأدبي، مثل التمييز بين الطبقات اللفظية والأسلوبية للنصوص، وفهم الأدب المرتبط بثقافات مختلفة، والتفاعل مع روح النص، والإحساس بما يحاول الكاتب إيصاله، فالنصوص الأدبية تتميز بصعوبة فهمها ومعالجتها، خاصة مع التعابير الرمزية أو تلك التي تحمل معاني ضمنية، وهي تحول بين الذكاء الاصطناعي وبين التفوق على المترجم في هذا الأمر.
ويبدو أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل المترجم الأدبي بشكل كامل حتى الآن، لكنه أداة مساعدة قيمة، من خلال توفير ترجمات أولية أو توفير خيارات مختلفة للمترجم الأدبي، وتسهيل الوصول إلى معاني الكلمات وترجمتها ما يُسرّع عملية الترجمة ويوفر للمترجم وقتاً أكبر لتركيز جهوده على الجوانب الفنية والجمالية، كما يمكنه المساعدة على توحيد المصطلحات، أو تقديم اقتراحات حول الصياغات، لتقديم ترجمة دقيقة وإبداعية تتماشى مع طبيعة النص الأدبي لا غير.
[email protected]
0 تعليق