من أبرز النتائج التي أفرزتها حتى الآن، وقائع التنافس والتنابذ بين المرشحين في انتخابات الرئاسة، أن الأمريكيين فقدوا خاصية كانت تمثل للنظام السياسي، قاعدة استقراره، وذلك بالتفاف الرأي العام من حول الفائز في الانتخابات أياً كان انتماؤه، سواء أكان جمهورياً أم ديمقراطياً. وهذه الخاصية كانت تعرف بلغتهم بكلمة Consensus أي التوافق بين أنصار المرشحين من أجل صالح الدولة ذاتها.
وتعبر عن تبعات هذا التحول، مؤسسه أوبزرفر للأبحاث، بقولها: إن هناك انقساماً حاداً وشاسعاً بين الأمريكيين، حتى من قبل أن تبدأ انتخابات 2024، بين ترامب وهاريس، وهو ما أظهره استطلاع لكل من، وكاله رويترز، ومركز ايبسوس، من أن الأمريكيين منقسمون حول ما يجب أن تكون عليه القضية ذات الأولوية للرئيس الجديد، بينما في سنوات سابقة كان هناك وضوح عام للأولويات، وبترتيبها من حيث الأهمية. كان هذا الوضع يرتبط بمفهوم الديمقراطية بصفته هوية للدولة الأمريكية، وما يترتب على ذلك من وجود نوع من الإجماع التوافقي.
وعلى النقيض من ذلك كان ما أظهرته دراسة لكل من، معهد بروكينغز ومركز أبحاث Prri، حول استطلاع للرأى العام أظهر أن 75% من الأمريكيين، يرون أن الديمقراطية في أمريكا هي الآن في خطر. وإن ذلك كان واضحاً في طبيعة التنافس العدائي بين المرشحين في انتخابات 2024، والذي وصل إلى درجه خطِرة من بروز النزعة الانتقامية، التي تصاعدت في خطب ترامب ضد منافسيه. كما أن الرأي العام يعيش في حاله من الاستقطاب، بين توجهات سياسيه متعارضة ممن يخشون على استقرار ديمقراطيتهم، وبين تصاعد موجات التأييد للعنف السياسي.
وهو ما أوضحه خبير الانتخابات روبرت جونز، من أن حرارة التعصب الحزبي تزداد في أمريكا، مع ارتفاع عدد الذين عبّروا عن تأييدهم للجوء للعنف كحل للخلافات السياسية، وهو ما يقوض أركان الديمقراطية، وأن هذا الاتجاه قد اتسع خلال العامين الماضيين، وهو ما أظهرته نتيجة استطلاع عن أن 23% من الأمريكيين يوافقون على اللجوء إلى العنف، الذي يعتبرونه من وجهة نظرهم الوسيلة الوحيدة لإنقاذ بلدهم. وهذه النسبة تمثل ارتفاعاً عما كانت عليه في عام 2021، والتي كانت وقتها عند 15%.
ووصل الأمر إلى أن 33% من الجمهوريين، أي الثلث، يعتقدون أن أبطال أمريكا الحقيقيين، هم من يلجؤون إلى العنف في العراك السياسي، وهذا ملمح خطِر من شأنه تقويض الديمقراطية بمعناها الذي كانت أمريكا تتباهى به.
ثم إن هناك تياراً منفلت الزمام من أنصار ترامب، ومقتنعي أفكاره، نسبته 41% ما زالوا يعتقدون أن انتخابات 2020 قد سرقت من ترامب.
وفيما يتعلق بالتضارب في وجهات النظر تجاه السياسات، فإن صحيفة «بوليتيكو»، قالت إن أمريكا منقسمة بالفعل حول السياسة الخارجية الأنسب لمصالحها، وأن هناك قطاعاً واسعاً يرى أن السياسات السائدة تتجاهل تطورات جذريه تجري في العالم، ولا تحاول التواؤم معها، كما أن الفجوة تزداد اتساعاً بين الجمهوريين والديمقراطيين، حول السياسة الخارجية، التي تتفق مع المصالح الحقيقية للشعب الأمريكي، وأيضاً حول دور أمريكا في العالم، وهي الفجوة التي تتسع وتتزايد خلال السنوات العشر الماضية، وهو اتجاه يخالف ما كان يجمع الجمهوريون والديمقراطيون من توافق حول قضايا السياسة الخارجية في سنوات سابقة، عندما كان مبدأ «التوافق» ملزماً للمرشحين المتنافسين، باعتباره يمثل احتراماً لإرادة الناخبين.
ويتحدث المحللون السياسيون، عما حدث من خروج الجمهوريين على وجه الخصوص، عن مبدأ كان قد أرساه الرئيس الجمهوري رونالد ريغان بين الحزبين، فيما يخص السياسة الخارجية، على حين أن آخر استطلاع في يونيو/حزيران 2024 لمعهد شيكاغو للشؤون العالمية، قد أظهر وجود فجوة كبيرة، بين نظرة كل من الجمهوريين والديمقراطيين لقضايا السياسة الخارجية.
ولعل من أبرز التوجهات التي أصبحت تجذب أنصاراً لها من مؤيدي ترامب، وحتى إذا لم يكن هو في الحكم، هي ما ابتدعه من مفاهيم تتعلق بإغلاق أبواب الهجرة من العالم إلى أمريكا، مع أن أمريكا قامت من البداية على أساس أنها أمة مهاجرين من دول العالم، بل إن عظمتها وتقدمها وتفوقها، خاصة في العلوم والاختراعات، وفي الاقتصاد والصناعة وغيره، كان راجعاً إلى انتقائها لنوعية من المهاجرين، الذين أطلقت عليهم أوروبا Drain Brain، أي استنزاف العقول، والذين جذبتهم إليها، ليحصلوا على جوائز نوبل، والتي تنسب عن طريقهم إلى أمريكا. وإذا نظرنا إلى الفائزين في آخر مرة بجائزة نوبل في الاقتصاد، نجد أن أحدهما من أصل بريطاني، والثاني تركي.
وكثير من العلماء الذين سبق أن فازوا بجائزة نوبل، هم مهاجرون، منهم على سبيل المثال: أحمد زويل من مصر، ومنهم الفائز بالجائزة تحت اسم أمريكا، القادم من تايوان، وبعد فوزه دعته تايوان لزيارتها، وعينته نائباً لرئيس الجمهورية.
وكان ما وفرته لهم أمريكا من فرص البحث العلمي والنجاح، سبيلاً إلى وجودهم، ضمن ما عرف بالنخبة المتخصصة.
أما الدعوة إلى إغلاق باب الهجرة بهذا الأسلوب العشوائي، فهو يحرم أمريكا من مميزات علمية وعالمية، كانت تتباهى بها أمام العالم.. وهذا التوجه يتصاعد بين نصف الأمريكيين على الأقل.
0 تعليق