المعرفة وما يؤسس الغايات - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عبد الإله بلقزيز

من المسلَّم به، في ميدانِ النّقد المعرفيّ ونقد الخطاب، أنّ المعرفة لحظتان اثنتان لا لحظة واحدة فحسب: لحظة المعرفة، ولحظة ما قبل المعرفة، وهُما، وإنْ تَتَالتا في شكلٍ تبدوان فيه منفصلتين، لحظتان متّصلتان تقود السّابقةُ منهما إلى تحديد اللاّحقة. معنى هذا أنّ ما قبل المعرفة جزءٌ لا يتجزّأ من المعرفة، لأنّها تقع منها موقع المحدِّد الذي يطبع مضمونها بطابع مَسْعِيٍّ إليه سلفاً.
بيان ذلك أنّ المعرفة لا تكون إلاّ بهندسةٍ قبْليّة تضع لها فروضَها ومواردَها وأهدافَها... وهذه تقع في تلك اللّحظة الابتدائيّة التي نطلق عليها اسم ما قبل المعرفة وهي كثيراً ما تكون حاسمة في تقرير نوع المعرفة المهدوفِ إليه، وقلّما كان أثرُها شاحباً في مجرى عمليّة إنتاج المعرفة إلاّ متى كان للمعرفة لا شعورٌ ما يكْسر رقابة العقل والهندسة والغَرض فيفرض نفسَه وأحكامه أثناء التّفكير والبحث، وبيِّن أنّ ذلك ممّا يقع للكثيرين منّا، من غير وعيٍ، خصوصاً حينما يدور التفكير على أسئلةٍ وقضايا ذاتِ علاقةٍ بالذّات، الفرديّة والجماعيّة، ويتعسّر فيها تحرّي الحياد والموضوعيّة، ولا تَخضع فيها هندسةُ المعرفة لصرامةٍ ورقابة مشدّدَتيْن.
قبل أن أعرف، عليّ أن أطرح على نفسي أسئلةً ابتدائية هي شرطٌ لازبٌ لتلك المعرفة: ماذا أعرف، وكيف، وبأيّ طريقةٍ ووسائل، ثمّ لأيّ غرضٍ أريد أن أعرف أو إلى ماذا أهْدُف من تلك المعرفة؟ هي عيّنةٌ، فقط، لأسئلةٍ عدّة تفرض نفسها على مَن يتهيّأ لمقاربة مسألةٍ ما وبناءِ معرفةٍ بها. قد لا تحضُر في ذهنه بوضوحٍ تامّ، وقد تدخل في عمليّة التّفكير على نحوٍ مُضْمَر وتأسيسيّ في الوقت عينِه كأنّها تُشبه - في وضعها هذا - تلك المقولات القبْليّة التي تؤسّس الوعي بأشياء العالم وظواهره، حسب إيمانويل كَنْت، كمثل مفهوميْ المكان والزّمان.
في كلّ حال لا يجري تفكيرٌ من غير أن يستصحب معه الأسئلةَ تلك: كلاًّ أو أبعاضاً، ومن غير أن تتنزّل منه منزلة الدّيناميّات الدّافعة. وما من شكٍّ في أنّ أظْهَرَ الأسئلة الابتدائيّة التي تُلازِم الوعي في لحظة ما قبل المعرفة، والتي لا يَعْرَى منها وعيٌ مفكّر، السّؤال عن الغرض من المعرفة المتغَيَّاة أو المَسْعِيِّ إليها، لأنّ الغرض هذا من المعرفة وحده يبرِّر الإقدام عليها وركوبَ صعْبها عند مَن يبغي المعرفة، ووحده يعتازهُ التّفكيرُ كي يكون وَقوداً له أثناء بنائه المعرفةَ في شأنٍ مّا.
نتأدّى من هذا إلى الاستنتاج بأنّ تحليلاً صحيحاً لأيّ معطًى معرفيّ لا يمكنه أن يُنْجَز، على النّحو المرغوب، إلاّ متى انصرف إلى فحص هذا البُعد المؤسِّس في كلّ معرفة: أي الغرض من ذلك. ومع أنّ الأغراض المحتَملة في أيّ معرفة عديدة يَعْسُر حصْرُها، إلاّ أنّها ترتدّ - في النّهاية - إلى دائرتين من الأغراض التي يُسْعَى إليها: دائرة يحتلّ فيها المعرفيُّ موقعَ المركز بوصفه هدفاً وحيداً للمعرفة وأخرى تتّسع لأغراض شتّى مصلحيّة: سياسيّة، إيديولوجيّة، اقتصاديّة، وطنيّة، قوميّة، فرديّة... إلخ، الجامع بينها أنّها جميعُها لا معرفيّة. يقع السّعيُ، في الأولى منهما إلى المعرفة من أجل المعرفة، فيما يقع السّعي، في الثّانية إلى المعرفة من أجل تحصيل أغراض أخرى ليستِ المعرفةُ في جملتها.
لا يعني هذا، بأيّ حال، أنّ فعْلَ المعرفة - في الدّائرة الأولى - يكون مجرّداً تماماً من أيّ أغراض غير معرفيّة أو بعْد- معرفيّة (أو بعد أن يقع بناءُ معرفة)، كما لا يعني، في المقابل، أنّ اغتراضَ أغراضٍ أخرى غيرِ معرفيّة - في الدّائرة الثّانية - يُخْرِج المعرفة من عمليّة التّفكير تماماً، ذلك أنّ التّمييز القاطع في المعرفة بين الدّائرتين يكاد أن يكون شأناً مستحيلاً.
إنّ فعْل المعرفة ليس فقط قابلاً للتّسخير من طرف فاعلٍ آخر غير منتِج للمعرفة، بل قد يَهْجس بالرّغبة في أن تقدِّم المعرفةُ التي يسعى إليها خدمةً اجتماعيّة أو إنسانيّة و، بالتّالي، يدخل هذا الهاجس ضمن تكوين تلك العوامل التي تتألّف منها هندسةُ المعرفة في لحظة ما سمّيتُه بما قبل المعرفة. والهاجس هذا لا يقوم في وعي الباحث - وفي لا وعيه - حين يكون عملُه علميّاً حصراً، أعني تجريبيّاً ورياضيّاً، وإنّما هو يقوم فيه حتّى حينما يتناول مسائل تنتمي إلى ميدان الإنسانيّات والاجتماعيّات.
أمّا من جهة المعرفة الدّائرة على أغراض غير معرفيّة فالأمرُ فيها أنّها لا تكون معرفةً - أو لا يليق بنا تسميّتُها معرفة - ما عدا إذا توسّلت أدواتٍ معرفيّةً وإلاّ فإنّها مجرّدُ خطابٍ لم يأخذ بعدُ هيئةَ معرفة. والثّابت أنّ هذا النّوع من المعرفة يحرص، في الغالب، على أن يبدوَ موضوعيّاً وعلميّاً لدى من يتلقّى معطياته، لأنّ ذلك من شروط صدْقيته وحُجّيّته، ومن عُدّته لإقناع مَن يبغي إقناعه بمشروعيّة ما يدعو إليه السّاعي في هذا المنوال من المعرفة. مع ذلك، أعني مع وجود هذا التّقاطُع بين الدّائرتين على صعيديْ المشتَرَك المعرفيّ والمشتَرَك فوق المعرفيّ، لا مناص من المَيْز والفرز بين النّمطيْن لئلاّ يُحْمَل الواحدُ منهما على الثّاني حمْلاً غيرَ مطابِق.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق