يحيى زكي
دأب الكثيرون من المحللين والمهتمين في مجال الإعلام على التمييز بين الأداة والمحتوى، فنحن نستطيع أن نملأ أي أداة بالمضمون الذي نريده، بغض النظر عن طبيعة عمل هذه الأداة، فالتلفاز على سبيل المثال ربما يكون وسيلة ترفيه أو تثقيف أو إخبار، ولكن مع مرور الزمن تبين خطأ تلك النظرة، وثبت أن لكل أداة طبيعتها التي تفرض مضموناً خاصاً بها يؤثر في المتلقي وفق أساليب وطرائق تختلف من أداة إلى أخرى.
ولعلنا لو نظرنا في مختلف وسائل الاتصال مع الآخر سنكتشف تغير مضمون أي رسالة مكتوبة نود إيصالها من وسيلة إلى أخرى، فنحن عندما نجلس لنكتب تلك الرسالة على الورق ستختلف مقدماتها وأسلوبها والكلمات المستخدمة فيها عن تلك التي نود إرسالها نصياً عبر الهاتف، وهذه الأخيرة ستختلف بالتأكيد عن رسالة أخرى نرسلها عبر البريد الإلكتروني، وهكذا، بمعنى أن الوسيلة تفرض محتواها الذي يناسبها، وهو ما ينطبق على وسائل الاتصال ككل، فما يقدمه المذياع يختلف عن الكتاب والسينما وهكذا، واتضح في النهاية أن محتوى التلقي المرئي يتمايز تماماً عن المسموع أو المقروء تبعاً للأداة التي تحمله وتقدمه إلى الجمهور.
نشأت شبكة الإنترنت، في مناخ كانت تهيمن عليه النظرة التقليدية التي ذكرناها في البداية، فاستبشر الجميع خيراً، فالشبكة ستكون أكبر مخزن للمعارف، وبالتالي كان التوقع أن تخدم الباحثين والمحللين في عملهم، وتوفر لهم مصادر لم يحلموا يوماً بها، ولكن الذي حدث العكس تماماً، فقد تراجعت نسبة المؤلفات الموسوعية، وتحدث الكثيرون عن تراجع مماثل في التفكير النظري والإنتاج الثقافي الرفيع والجاد، بل إن الدراسات التي استندت في مراجعها ومصادرها إلى الشبكة ظهر فيها خلل واضح حتى في جوانبها المعلوماتية.
لم ندرك مع نشأة الشبكة وازدهارها وانبهارنا بها أنها مفيدة فقط في «المعرفة السريعة»، وأنه لا يمكن الاستعانة بها في بناء معرفة ثقيلة، فهي بطبيعة أدواتها وأساليب تعاملنا معها تختلف جذرياً عن ذلك الباحث القديم الذي كان يكدس المراجع أمامه، ويذهب يومياً إلى المكتبات العامة وإلى أسواق الكتب القديمة ليصل إلى معلومته. كان الجهد في الوصول إلى المعلومة قيمة ودأباً في حد ذاتهما، كانت المعلومة محترمة ومصانة ويتم تحليلها بهدوء وليس وفق منطق اللهاث والتغير اللحظي الذي يسود الشبكة.
مع الذكاء الاصطناعي تراجع الدأب البشري أكثر، فبتنا أمام ما يشبه مصباح علاء الدين، حيث هناك جنّي يلبي رغباتنا بمجرد الطلب، هذا يترجم وذاك يرسم وثالث يؤلف بحثاً، لم يعد هناك حتى الوقت الذي كنا نقضيه مع الشبكة بحثاً عن معلومة أو خبر، ولم تعد المعرفة أكثر من مجرد طلب، وهو ما سيقضي أيضاً على أهم قيمة ظل البشر يضعونها في الصدارة لمئات السنين، وهي قيمة إتقان العمل التي ستختفي رويداً رويداً، وبالتأكيد سينتهي الجدل حول العلاقة بين الأداة والمحتوى، فتلك الأولى ربما تهيمن على وجودنا نفسه وتفرض بنفسها ما نتلقاه من أخبار ومعلومات.
0 تعليق