البحث عن الهوية عملية سهلة ومعقّدة في آن، فالإنسان البسيط يجد إجابات عن كل ما يطلبه أو يشغله ويبحث عنه، من خلال محيطه وثقافته ومعارفه التي لم يناقشها في أي وقت من الأوقات، وربما لم يخطر على باله مناقشتها، فهو يمشي وفق فطرته وبراءته وأحياناً قدريته، والبساطة لا علاقة لها بالعلم، قد تحمل درجة الدكتوراه وتتمتع بفكر بسيط، وهو ما يعني قبول ما نشأت عليه منذ الصغر، وعمّقته في الكبر من دون أي مساءلة، فاسمه واسم أبيه وعائلته ولغته ودينه، وربما مذهبه وانتماؤه وولاؤه، كلها مسائل منجزة ومتحقّقة وموروثة ولا مجال لمناقشتها أو مقايضتها أو المقامرة بها، وغالباً ما نجد هذا الإنسان ينحدر من بيئة بسيطة نظيفة كالريف، وهذا لا يعني أن الريف لم ينجب فلاسفة ومفكرين ومناقشين ومحكمين لكل شيء في حياتهم، لكن الأغلبية العظمى تنتمي إلى شريحة تؤمن بالفطرة وتطبقها في حياتها.
أما الإنسان غير البسيط، والمعقّد ليس نقيضه، فإنما هو الإنسان العارف المطّلع المفكّر الذي يضع كل ما يرده من معلومات تحت المجهر، بما فيها معلومات تتعلق بحسبه ونسبه وجيرانه وبيئته ووجوده في هذه الدنيا، وقد تمتد إلى انتمائه للمكان فيبحر في قراءة التسلسل البشري والهجرات، إلى ما هنالك من أسئلة تطرح ذاتها مباشرة على هذا الإنسان غير البسيط، الذي يبحث عن هويته خارج إطار العادات والتقاليد واللغة والعقيدة، وإن صح التعبير، فإنه يبحث عن هويته الوجودية، وهذا البحث لا علاقة له بالإيمان أو الكفر، إنما يسعى إلى العثور على نفسه في هذا العالم متعدد الأعراق والثقافات والعقائد واللغات. ويحلو لبعضهم أن يربط هويته بشخصيته الوطنية، فإذا بحث كثيراً سيجد أن شخصيته الوطنية هي هويته، وهويته هي شخصيته الوطنية، بكل حمولاتها المعرفية والثقافية والحضارية والتاريخية، وهنا يحدّد ملامح هذه الهوية أو الشخصية الوطنية، وينتهي الأمر.
والعالم يضج بالهويات، ولا نعني بها الجنسيات، أي الانتماءات الجغرافية، إنما بالانتماء إلى ثقافة وتاريخ وجغرافيا وعقيدة وماض وحاضر ومستقبل، وكل فرد من هؤلاء يعتز بهويته ويفخر ويتفاخر بها أمام الشعوب، ويسعى إلى التعريف بها بالطرق كافة، وأمام توفّر وسائل التواصل الاجتماعية والوسائل الإعلامية المختلفة ووسائل الاتصال، أصبح الإنسان أكثر شراهة للتعريف بهويته لسببين، إما دفاعاً عنها أمام الهويات الكثيرة، وإما لإثبات تميزه وأصالته، رغم أن كل شخص يرى ذاته متميزاً، وأنه ينتمي إلى هوية عريقة وشخصية وطنية جديرة بالاحترام، وهذا الأمر يحمل خطورة ما في داخله إن لم يحترم ويعترف بالهويات الأخرى وعناصرها، لأنه قد يصل إلى مرحلة يميز فيها نفسه ويطالب الآخرين بالاعتراف بتفوقه، وهنا تبدأ العنصرية وتنشب الحروب والقلاقل.
وقد استغرق المنظرون والمفكرون وقتاً وأزمنة للتوصل إلى حقيقة المساواة بين الهويات والاعتراف بحق الآخر في الوجود والمباهاة بنفسه من دون تقليل من قدر الهويات الأخرى، ورغم هذه الجهود لا تزال العنصرية تتفشى بين عدد من الهويات ويدعمونها بنصوص مقدسة رغم أن الله خلق الناس سواسية كأسنان المشط، وهذا الدعم هو الذي خلق الصراعات والتناحر والحروب والمصادرة والإلغاء والشطب، وليس أصعب من أن يتعرض الفرد أو الشعب لمحاولات شطب هويته وشخصيته الوطنية وكينونته.
وهذا يقودنا إلى سؤال لا يزال يشكل محوراً خطراً في حياة البشرية: لماذا يتعمّد بعضهم إلى إلغاء الآخر أو مصادرته أو التنمّر عليه ويعطي لذاته الحق في السيطرة على مقدراته وثرواته، وقد يصل الأمر إلى استعباده؟
لقد مرّت البشرية بهذه الممارسات التي اتخذت طابع العنف المبالغ فيه، وسعت بعض الكيانات إلى غزو الآخرين وإقامة الإمبراطوريات استناداً إلى إحساسها مرةً بالتفوق، ومرة بدورها الإنساني والحضاري لتمدين البشر وتثقيفهم، وهذا الأخير ما هو إلا مبرّر للغزو والسيطرة على ثروات الشعوب ومصائرها.
والمؤسف أن هذه الممارسات لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، ولكن بطرق مختلفة، منها السلمي ومنها الإكراهي ومنها المصالح والمقايضات، لكنها في النهاية موجودة. فهل التنازع على نشر الهوية والسعي إلى تصديرها جزء أصيل من النفس البشرية والطموح للتفوّق والسيطرة؟ وهل صراع الحضارات الذي تحدث عنه هنتنغتون قد بدأ قبل نظريته وسيستمر إلى ما بعدها؟ ما يعني أن هذا الصراع سيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ أم أن البشرية ستقلّم أظافرها بذاتها وتنتقل إلى الحياة السلمية، وتتقاسم ثروات الأرض في ما بينها؟ أم أن الإنسان عدو نفسه كما تقول النصوص المقدسة وعلماء علم النفس؟
منذ وُجد الإنسان وهو في حرب طاحنة مع أخيه الإنسان، ولم يتعلّم من الحروب التي أودت بمئات الملايين من البشر، ولم يصل إلى الحكمة التي تقول إن الحرب لم تقدّم الحلول للبشرية في أي وقت من الأوقات، بل زادت الكراهية.
ترى، هل يبحث الإنسان عن هويته طوال تاريخه الدموي، أم أنه في مسعاه يفقد هويته الإنسانية؟ سؤال مخيف ومرعب للشخص العارف المتأمل المطّلع الذي يطرح الأسئلة، وليس للبسيط المكتفي بمحيطه الضّيق، ويبقى مطروحاً للجميع، العارفين والبسطاء.
0 تعليق