حين تتغير طبائع الحقوق - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كان في حكم المألوف، منذ زمنٍ من العصر الحديث، أن تَلْحظ دول حديثة حقوقاً لمواطنيها، أو لقسم منهم، غيرَ تلك التي تَدخُل في جملة حقوق المواطنة التي يتمتّع بها جميعُ مَن تَشُدُّهم إليها رابطتا الانتماء والولاء. ولقد حرصت الدّول تلك على كفالة هذه الحقوق من طرقٍ عدّة: من طريق تشريعاتٍ خاصّة تَضْمنها لِمن تَحِقّ لهم، أو من طريق النّصّ الدّستوريّ عليها مع ما يوجِبُه ذلك من قوانين خاصّة، أو من طريق إنجاز هندسةٍ سياسيّة لنظام الحكم تَلْحظ حقوقَ تلك الجماعات في إدارة شؤونها الذّاتيّة بنفسها فتعبّر عنها، تنظيميّاً وإداريّاً ومؤسّسيّاً، في هيكلٍ لا مركزيّ. تتباين صُوَر الاعتراف الدّولتيّ بالحقوق تلك تبعاً لتفاوُت كثافتها وضغوطِ قواها الاجتماعيّة بين دولةٍ وأخرى، لكنّها تجتمع على التّسليم بمشروعيّة حقوق قِلّاتٍ («أقليّات») اجتماعيّة متمايزة عن الجماعة القوميّة الكبرى داخل الجماعة الوطنيّة الجامعة التي تنتمي إليها.
أوّل ما يميّز هذه الحقوق (عن حقوق المواطن)، أنّها ليست فرديّة بل جماعيّة: تتعلّق بجماعات أقواميّة تعيش داخل الكيان الوطنيّ الواحد مع الجماعة القوميّة الكبرى. قد لا يَطرح بعضُ هذه الجماعات الأقواميّة مشكلةً داخل الجماعة الوطنيّة بطرح مطالبَ تتعلّق بحقوقٍ خاصّة، والغالب على هذا أن يحْدُث حين لا تشعر هذه الجماعات بغبنٍ أو حيفٍ تجاهها ولا باهتضامٍ لحقوقها. كما قد يجد بعضُها نفسه مدفوعاً إلى المطالبة بحقوقٍ ذاتيّة داخل الدّولة، غير حقوق المواطنة، مع التّسليم بوحدتها، فيما قد تميل جماعةٌ مّا، في حالةٍ أخرى، إلى المطالبة بالاستقلال فتطرح، حينها، على الدّولة وعلى الجماعة الكبرى فيها تحدياً مصيريّاً: التّهديد بالانشقاق والانفصال. وأكثر هذه الحالات التي يرتفع فيها مطلبُ الانفصال يصير بيئةً خصبة لعمليّة تسخير أجنبيّ (لقوى ذلك الانفصال)، الأمرُ الذي يبرِّر لسلطة الدّولة اللّجوء إلى القوّة لإخماد دعوة الانفصال والدّفاع عن وحدة الدّولة والوطن، خاصّةً حين تلجأ القوى الاجتماعيّة المطالِبة به، بدعمٍ من القوى الخارجيّة، إلى استخدام وسائل العنف في مطالباتها.
ما من دولة حديثة (في الغرب خاصّةً) لم تمُرّ بتجربة الصّراع المرير بين الجماعة القوميّة الكبرى، داخل الدّولة، والجماعات الأقواميّة الأصغر الممانِعة لسلطانها السّياسيّ عليها، قبل أن تعثر (تلك الدّولة الحديثة) على حلٍّ سياسيّ ديمقراطيّ لفضّ الاشتباك الدّاخليّ بين الجماعات القوميّة فيها على النّحو الذي به يستتبّ الأمن والاستقرار والسِّلمُ المدنيّةُ فيها، وتُحْفَظ به وحدةُ الدّولة والكيّان. إذا كانت دولُ الغرب قد نَعِمت بالاستقرار وترسّخت فيها أنظمةٌ مؤسّسيّة قويّة مُمْتصَّةٌ للصّدمات وكافلةٌ لحقوق الجماعات المختلفة، فما ذلك لِمِنّةٍ أو فضْلٍ من النّخب السّياسيّة الحاكمة، ولا لمفعول القيم المدنيّة في مجال السّياسة، بل لأنّ سلطات تلك الدّول حُمِلَتْ، بقوّة ضغط تلك الجماعات، على التّسليم بحقوقها مَخْرجاً من هزّات القلاقل الاجتماعيّة، ومسْلكاً مأموناً إلى حماية الاستقرار وصوْن وحدة الدّولة.
لا جَرَم أنّ هذا الجوابَ السّياسيّ عن المطالب الذّاتيّة للجماعات المختلفة (عن الجماعة الكبرى) هو الجوابُ الدّيمقراطيُّ الأفعل عن مطالَباتٍ ليست تَعْزُبُ عن الحقوق الدّيمقراطيّة في أيّ دولةٍ حديثة. بيانُ ذلك أنّ النّظام الدّيمقراطيّ الحديث، في مفهومه النّظريّ، هو النّظام الذي يوفّر الجواب عن حقوق المواطنين وحقوق الجماعات الاجتماعيّة فيه: طبقات، فئات، أقوام... إلخ، ذلك أنّ انتماء هذه إلى الدّولة وأداءَها واجباتها التي يرتّبها عليها ذلك الانتماءُ، يستولد لها حقوقَها: فرديّةً وجماعيّةً، بوصفها حقوقاً ديمقراطيّة.
بهذا المعنى تكون مطالبها الدّائرةُ على الحقوق الذّاتيّة، مثل الحقوق الثّقافيّة واللّغويّة، مطالبَ ديمقراطيّةً في محتواها، لا تستجرُّ إجابتُها وإشباعُها خطراً مّا على وحدة الدّولة والوطن، وخاصّةً عندما يرْكب التّعبير عن تلك المطالب مرْكباً سياسيّاً سلْميّاً ولا يثير اشتباهاً في طبيعته. والأهمُّ من سِلميّة تلك المطالبات بالحقوق الدّيمقراطيّة أنّ التّجاوب معها - ولو تدريجاً - هو السّبيل الأمثل إلى تجنيب الوطن والدّولة تجربة الانقسام والفتنة، وقطْع دابر المداخَلات الأجنبيّة التي تبتغي الصّيْد في بيئة التّأزُّم هذه.
في المقابل، حين تنغلق الآذان على تلك المُطَالَبات فتُقَابَل بالتّجاهُل أو بالإنكار أو بالقمع، وحين يُحْمَل على قُواها بحمْلات التّخوين والشّيطنة والتّشنيع، ويُحَرَّض عليها أو يتعرّض منها مَن يتعرّض للعقاب، يقع الانتقالُ النَّكِد في تلك المطالب على نحوٍ تتغيّر به طبيعتُها، فتصير مطالب وطنيّة (الاستقلال، الانفصال...) بعد إذْ كانت ديمقراطيّة داخليّة.
حينما تبدأ لحظةُ الانعطاف الكبرى في حياة المجتمع والدّولة وأزمتها: اللّحظةُ التي تبدأ فيها الأزمة تَخْرُج من نطاقها المجتمعيّ المحليّ إلى حيث تُؤَقْلَم (يدخل فيها الإقليم المحيط) وتُدَوَّل، وهي اللّحظة التي تُفْلِت فيها (الأزمة) من بين أصابع مَن صنعوها في الدّاخل لِتسقُط ثمرةً طازجة بين أيدي مَن يبحثون عن فُرَصٍ تأتيهم من مصادر تأزُّمٍ من هذا النّوع.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق