د. ناصر زيدان
قبل عامٍ أطلق مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 28) من مدينة دبي صرخة مدوّية لسكان الأرض وللدول الكبرى، يستنجد فيها بكل القادرين والمؤثرين؛ من أجل العمل الحثيث على تطبيق كامل مندرجات اتفاقية باريس للعام 2015، وهي تتضمَّن خطة واقعية وعلمية تهدف لتحقيق احتباس حراري لا يزيد على 1,5 درجة مئوية، بينما الواقع اليوم يشير إلى ارتفاع هذا الاحتباس ما بين 2,6 و3,1 درجة، وفقاً لدراسات موثوقة.
وأمام 60 ألف مشارك في الإمارات العربية المتحدة في العام الماضي، كان لبعض الدول الكبرى اعتراضات، وهذه الدول لم تُسهم بما فيه الكفاية في دعم الدول النامية للاستثمار في توليد الطاقة النظيفة، ولم تلتزم بخفض الانبعاثات السامة من معاملها كما كان مقرراً.
مهما يكُن من أمر؛ فإن مؤتمر «كوب 29» الذي انعقد في باكو عاصمة أذربيجان بين 11 و22 نوفمبر/تشرين الثاني، ومُدّدت أعماله ليومين إضافيين، خرج بنتائج مقبولة بحدها الأدنى، بحيث أقرَّ اعتماد مساعدات مالية سنوية للدول النامية بقيمة 300 مليار دولار لتنفيذ الخطط التنموية والاستثمارية التي تتمكن من خلالها من الالتزام بتوصيات المؤتمر، كما في التعويض عن الخسائر الهائلة التي تسببها الكوارث الطبيعية الناتجة عن التغيُّر المناخي، بينما كانت هذه الدول تطالب بمساعدات لا تقلُّ عن 450 ملياراً.
الرئيس الأمريكي جو بايدن اعتبر أن ما حصل في «كوب 29» إنجاز كبير، بينما فرنسا وأغلبية الدول الأوروبية أيّدت النتائج، وقالت إنها كانت تريد أكثر مما حصل، بينما الهند وأغلبية الدول النامية، وخصوصاً الإفريقية منها، اعتبرت أن المقررات مخيبة للآمال، وكان على المؤتمر تقديم معونات أكثر للدول التي تعاني من صعوبات اقتصادية لا تسمح لها بتطبيق شروط تخفيض الاحتباس الحراري، لا سيما لناحية اعتماد الطاقة النظيفة التي تحتاج لاستثمارات كبيرة، وليس لهذه الدول القدرة على التخلي عن الطاقة الأحفورية بالنسبة التي فرضتها قمة المناخ. وممثلو هذه الدول أشاروا في مداخلاتهم أمام الحاضرين في قاعات «استاد باكو» إلى المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الكبرى على المجهودات الحربية وعلى الصناعات العسكرية، وهي تفوق بكثير المبالغ التي طُلبت منها لتوفير بنية تحتية تساعد على وقف المخاطر المُتأتية عن التغيّرات الطبيعية، وقد تأكد أن هذه التغيّرات ناجمة عن الاحتباس الحراري ونمو الانبعاثات الكربونية وحبسها.
ويوجِّه ممثلو الدول النامية نقداً علنياً للولايات المتحدة في هذا الخصوص؛ لأنها تدعم الماكينات الحربية المدمرة لبعض الدول، خصوصاً لإسرائيل ولغيرها بمبالغ طائلة، بينما تتباخل في سياق دعم فرص التنمية في الدول الفقيرة. وبرزت آراء في مؤتمر باكو تشير إلى سِمة القسوة التي تغلب على السياسة الأمريكية أحياناً، بحيث إنها تريد فرض رؤيتها على الآخرين، استناداً إلى كونها القوى الأكبر في العالم على المستويين العسكري والاقتصادي، وتمارس فوقية واضحة تطال حلفاءها أحياناً، وقد كان واضحاً الاختلاف في الرؤى بينها وبين الاتحاد الأوروبي في «كوب 29».
الأرض ثكلى بما حمَّلتها البشرية من مصاعب، وبما ألقت عليها من خدوشٍ وتلوث، وهي تصرخ اليوم، وأكثر من أيّ يومٍ مضى؛ لإنقاذها من الاضطرابات الناتجة عن التغير المناخي، الذي يُصيب سكان الأرض بالويلات والكوارث، من جراء الأعاصير والفيضانات والعواصف وحالات الجفاف غير المسبوقة، وقد طالت هذه الحالات قارات الأرض قاطبةً، من نيوزيلندا إلى البرازيل، مروراً بالولايات المتحدة، وصولاً إلى دول الاتحاد الأوروبي وآسيا وإفريقيا التي نُكبت أكثر من مرة هذا العام، خصوصاً في دول القرن الإفريقي.
أقرت قمة باكو (كوب 29) مجموعة من التوصيات المهمة، استكمالاً لما أعلن في قمة دبي (كوب28) العام الماضي، لكن العبرة بالتنفيذ، كما في قدرة بعض الدول الفقيرة على تطبيق ما أُقرّ. فمن جهة، لم تضع قمة باكو آلية لطريقة تقديم المساعدات المالية لهذه الدول وجدولاً زمنياً لدفعها، ومن جهة أخرى، لا يوجد جهاز دائم يتابع تنفيذ المقررات، لاسيما لدى الدول الكبرى، فهي التزمت بتطبيق مقررات اتفاقية باريس في السابق، ولم تطبِّق شروطها بالشكل المطلوب، فحتى الآن لم تصل نسبة الاعتماد على الطاقة البديلة في الولايات المتحدة وفي الصين كما كان مقرراً، كما لم تلتزم الدولتان بخفض انبعاث الكُربون الأسود إلى ما دون 33% بحلول عام 2025. بينما فوضى تجارة الكربون كبيرة، ولم تتقيد أغلبية الدول بالأصول التي أشارت إليها قمم المناخ السابقة، وقد أعادت قمة باكو التأكيد عليها، وفرضت شروطاً صارمة على التبادلات التجارية الكربونية، وهو ما سيُؤدي إلى زيادة كبيرة في الاستثمارات التي تخفِّض من منسوب الاحتباس الحراري.
الكوكب المأهول يستنجد بسكانه لوقف التجاوزات الخارجة عن قواعد الطبيعة، خصوصاً لناحية وقف انبعاث غاز الميثان السامّ إلى الغلاف الجوي، كذلك في التوقف عن تدمير الأماكن الطبيعية وتشويهها، ولعدم الاعتماد أكثر على حرق الفحم والغاز والنفط الأحفوري لتوفير الطاقة، بينما هناك تجارب ناجحة على إنتاج هذه الطاقة من مصادر أخرى لا تُسبب ضرراً للطبيعة. لقد آن الأوان لبعض القادة والدوائر النافذة التخلّي عن التعالي والمكابرة في التعاطي مع الدول النامية، وفي الاستهتار بمستقبل البشرية.
0 تعليق