د. يوسف مكي
رغم المشتركات التي خلقت الهوية العربية، من لغة وجغرافيا وثقافة وتاريخ، فإن ذلك لا ينفي وجود هويات فرعية، ضمن النطاق العربي. وليس في ذلك ضير، طالما أن هذا التنوع، لا يشكل تهديداً ماثلاً للأمن القومي، بل العكس من ذلك، فهذا التنوع، هو بالتأكيد عامل تخصيب وتحفيز للعطاء والإبداع، حين يعمم مفهوم المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص. ولكنه يغدو عكس ذلك، حين تغيب شروط التجانس الوطني فيه.
في هذا السياق، نشير إلى المذاهب الإسلامية، التي انبثقت في فترة تاريخية واحدة، مع بداية العصر العباسي، في عهد أبي جعفر المنصور، وبلغت أوجها مع الخليفة العباسي المأمون، حين برزت المذاهب الفلسفية، من معتزلة وأشاعرة وقدرية وجبرية ومرجئة. وقد أضافت جميعها للفكر العربي، مساهمة في تحصينه وتطويره، وكانت تجليات هذا الفكر، قد بدأت بنقل علوم الأولين، وبشكل خاص علوم الإغريق، لتصل مع ابن رشد، قمة ما قدمته حضارة العرب، في مجال الفكر، ولتضع النواة الأولى للفلسفة، مبرزة أعلاماً كباراً، كالكندي والفارابي وابن خلدون.
وللأسف، فإن هذا التنوع، الذي كان عامل تخصيب للفكر العربي، جرى استغلاله من قبل القوى الخارجية بالوطن العربي، للحيلولة دون تحقيق النماء والتقدم والنهضة في بلداننا. وكان أبشع ما تمخضت عنه عبقرية المحتل الأجنبي، هو تعميم حالة سياسية، تستند إلى القسمة بين الطوائف والأقليات. وكان لبنان هو المختبر الأول، في صناعة هذا النوع، من الأنظمة السياسية. ومع احتلال أرض السواد عام 2003، نقل الأمريكيون تجربة لبنان إلى العراق، حين نفذوا عملية سياسية تستند إلى المحاصصة بين الطوائف، وليبقى العراق، منذ ذلك الحين، أسير تلك التركة.
والنتيجة الحتمية، لهذا النوع من القسمة، هو تغييب الدور المركزي للدولة، وقيام فيدراليات الطوائف. ومن البديهي القول، إن سيادة أنظمة المحاصصة، من شأنه تغييب فكرة التنمية الشاملة، والتكامل الاقتصادي، وأيضاً إتاحة الفرص للتدخلات الخارجية، وتقسيم الوطن إلى كانتونات ضعيفة، يستند كل كانتون فيها، إلى الهوية الخاصة، والثقافة المصنعة.
ولأن كل فئة أو طائفة، توجد في ظل نظام القسمة، بحاجة إلى ظهير يناصرها ويحميها، فإن واقعها المأزوم بطبيعته، يجعل استعانتها بالخارج، أمراً محتماً، لأنها من دونها لا تكون قادرة على البقاء والاستمرارية.
وهكذا في ظل هيمنة الهويات الفرعية، تغيب إمكانية قيام دولة عصرية، ولا يكون بالمقدور تحقيق فكرة الدولة الوطنية، والمؤسسات العصرية للدولة الحديثة. كما لا يكون بالمستطاع قيام صناعة حقيقة، في الوطن، لأن التصنيع بطبيعته يحتاج إلى كتل اقتصادية كبرى، وأموال طائلة، ليس بمستطاع حملة الهويات الفرعية تأمينها.
يضاف إلى ذلك، أن عقلية القسمة هي بطبيعتها تفتيتية، بحيث تجر كل قسمة إلى قسمة أخرى، في متواليات لا نهاية لها، يكون من نتائجها تشظي الأمة، وتغييب وجودها وضياع دورها. وتكون في هذه الحالة كالسبحة، سقوط حبة منها، يعنى انفراط السبحة كلها.
وأسوأ ما في سطوة الهويات الفرعية، هو مخاطرها على الوعي الجمعي للأمة. وبحسب عبد الرحمن بن خلدون، فإن الهويات الفرعية، لها موقفها الخاص من التاريخ، وهي تفسره بالسياقات التي تخدم توجهاتها، ملتحمة بعصبية النسب. والأخطر، أن يتحول الانتماء الفرعي، إلى أيديولوجية وعقيدة اجتماعية تحدد أنساق عملها، وتغيب فكرة الدفاع عن الوطن الواحد، في وجه وحشية وغطرسة الاحتلال، وهو للأسف ما نشهده في بقاع كثيرة من الوطن العربي، كالسودان واليمن ولبنان، حيث تقف اعتبارات الهويات الفرعية، ككابح للتصدي الجمعي في مواجهة الغطرسة، ووحشية الاحتلال وجبروت القوة.
لقد حلمنا بعد هزيمة السلطنة العثمانية، بقيام أمة عربية واحدة، تجعل بلدان المشرق العربي، في مرحلتها الأولى، وتصورنا أن تحقيق ذلك أمر يسير، طالما جمعتنا أرضية واحدة وسقف واحد، لكن ما تمخضت عنه الحرب العالمية الأولى، ووقوع بلدان المشرق، تحت السيطرتين الفرنسية والبريطانية، جعل الكفاح العربي، يخوض معارك الاستقلال، من غير الأرضية الواحدة والسقف الواحد. وانتهت معارك الاستقلال بقيام دول وطنية، بعضها تأسس بحكم التاريخ، وأغلبها وجد كنتيجة لقسمة سايكس- بيكو.
وقد بات وجود الدولة الوطنية، أمراً مقبولاً، ليخلق واقعاً هوياتياً جديداً، فنحن في انتمائنا الأكبر، عرباً، نتوق لقيام، أي شكل تدرجي من أشكال الوحدة، لكننا في ذات الوقت ننتمي إلى هويات جمعية أخرى، هي هوياتنا الوطنية، وأصبحت مسؤوليتنا الأولى هي الدفاع عن هذه الأوطان. لكن الوقائع التي أعقبت قيام الكيانات الوطنية، قد أثبتت مرة أخرى، عجزنا عن مواجهة متطلبات النهوض بالتنمية، وحماية الأمن القومي العربي.
ولحسن طالعنا، فإن عدداً لا بأس به من النخب والحكومات العربية، قد أدرك أهمية الحفاظ على الأمن القومي العربي، فكان توقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك، تعبيراً عن هذا الوعي. وفي ظل حالة التشرذم والتفتيت والحروب التي تعانيها أقطار عربية عديدة، يبدو أنه لا مناص من العودة إلى الأصول، إلى نبش تلك الاتفاقيات التي يكتظ بها أرشيف جامعة الدول العربية، ونفض الغبار عنها، وإعادة الاعتبار لها.
إن ذلك يعني، أن يقف العرب جميعاً، شعوباً وقيادات، مع أشقائهم في لبنان وفلسطين والسودان، للعمل على وقف النيران التي يشتعل أوارها في كل زاوية من تلك الأقطار، لنعيد الأمن والنماء فيها، ويعود النازحون إلى مساكنهم، وتعم في ربوعنا البهجة والفرح.
0 تعليق