شهدت الساعات الأخيرة سباقاً محموماً بين الغارات الإسرائيلية المدمّرة على الضاحية الجنوبية لبيروت، وحديثاً متسارعاً عن قرب التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان بعد أكثر من ثلاثة عشر شهراً من مواجهات تصاعدت إلى حرب واسعة لم تتحقق فيها نتيجة حاسمة، ما سمح بالعودة مرة أخرى إلى المفاوضات غير المباشرة للبحث عن هدنة تؤجل المعركة المفتوحة إلى جولات مستقبلية.
وقف العدوان الإسرائيلي على لبنان وإنهاء المواجهة مع «حزب الله» سيطر في الأيام الأخيرة على القنوات الدبلوماسية، وكان مطلباً لبنانياً وعربياً وإقليمياً ودولياً لتفادي سقوط مزيد من الضحايا واحتمال توسع دائرة الحرب التي اندلعت شرارتها من قطاع غزة الذي مازال يتعرّض لإبادة جماعية تشنها إسرائيل بلا هوادة مع اتساع نطاق سياسة التجويع والتهجير، وتدمير كل مقومات البقاء على قيد الحياة.
ورغم وجود بعض الجدية في التوصل إلى اتفاق هدنة على الجبهة اللبنانية، تظل الشكوك حول فشل هذا المسعى أمراً قائماً وممكناً في المستقبل؛ لأن طرفي الصراع لم يحقق أي منهما أهدافه، فـ«حزب الله» لم يلحق الهزيمة المسلحة بإسرائيل كما تصوّر وخطط، وإسرائيل بدورها لم تتمكن من القضاء على الحزب، وإن اغتالت الصف الأول لقيادته، كما لم تفلح في إعادة مئات الآلاف من السكان إلى الشمال كما تعهّد نتنياهو وجنرالات جيشه، ولذلك فإن المسار الأقل كلفة لجميع الأطراف هو التوصل إلى هدنة، ولو هشة ورمادية، وهذا الهدف لا يمكن التيقن من صدقيته حتى يصبح ناجزاً وواقعاً، وحتى تتبين نتيجة الجولة العنيفة من الغارات الجوية والقصف الصاروخي التي سادت في الساعات القليلة الماضية مع تصاعد الحديث عن اتفاق وشيك لوقف النار وسط سحب من الدخان الأسود وعويل صفارات الإنذار.
المعركة، التي تنتهي باتفاق هدنة، لا تحل المشكلة ولا تحسم الحرب، وإنما تُبقي على جذور التوتر لجولة أخرى من التصعيد.
وفي الحالة اللبنانية، فإن إبرام وقف لإطلاق النار لم يكن مستبعداً، وإن طالت المواجهة، فكل الخيارات والمسارات كانت تحيل إليه عبر نداءات ودعوات سياسية واتصالات سرية، إضافة إلى مساعي المبعوث الرئاسي الأمريكي آموس هوكشتين والدور الفرنسي الذي لا يريد التخلي عن «علاقاته الخاصة» مع لبنان.
أما المشكلة الكبرى، التي يجب ألّا تحتجب من المشهد، فهي المأساة المدوّية في قطاع غزة جراء العدوان الإسرائيلي الذي تجاوز كل الحدود، وأصبحت نتائجه عبئاً سياسياً وأمنياً وأخلاقياً على المجتمع الدولي برمّته، الذي يفترض أن يحسم أمره بعد أن تأكد أن ما يحدث هناك ليس مواجهة مسلحة متكافئة، بل حرب تطهير وإبادة وقتل وترويع وتدمير ممنهج، ولا يصحّ فيها الحديث عن «وقف لإطلاق النار»؛ فقد أصبحت غزة مدمّرة بالكامل، ووضعها لم يعد جريمة إسرائيلية فحسب، بل فضيحة دولية ستخترق سجلات السنوات المقبلة، وفداحة الوضع هناك لن يحجبها إبرام هدنة في لبنان، بل إن استمراره سيجعل من نذر التصعيد قائمة، وقد تكون أسوأ مما سبق، وتقضي على أي فرصة لتهدئة الشرق الأوسط الذي لن يعرف الاستقرار ما لم يتم لجم الاحتلال الإسرائيلي، وإنقاذ الشعب الفلسطيني ومساندته حتى إقامة دولته المستقلة، وبذلك فقط يمكن إنهاء الصراع، وطرد شبح الحروب من وجدان المنطقة.
0 تعليق