في وقت تتطور فيه العلاجات الطبية بشكل مستمر، يبقى الخوف والجهل أكبر عائق أمام الوقاية والمساعدة في العلاج من الأمراض.
وتلعب الأديان دورا مهما في مواجهة هذه الوصمة؛ باعتبار أن كل واحد منها يقدم رؤية فقهية وروحية تساهم في تحطيم الحواجز المجتمعية وتعزيز المساواة والرحمة بين أطيافه.
وفي هذا الصدد ناقشت جلسة حوارية موسعة على هامش المؤتمر العلمي الثاني الذي حمل عنوان "الاستجابة الوطنية للصحة الإنجابية وفيروس نقص المناعة البشري بين التحديات والتطلعات"، من تنفيذ مركز سواعد التغيير، رؤية الأديان في التعامل مع فيروس نقص المناعة البشري.
الدكتور حاتم السحيمات، الحاصل على دكتوراه في الدراسات الإسلامية، والذي يشغل منصب مساعد أمين عام وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، أدار الجلسة المتعلقة بالأديان.
وأكد السحيمات أن الدين الإسلامي نبذ ورفض الوصمة الاجتماعية بحق الأفراد المصابين بمرض معين، موضحًا أن الإسلام يستبدل الوصمة بالرحمة بين الأفراد.
الوصمة من منظور الدين الإسلامي
وفي السياق، الداعية الإسلامي الدكتور ربيع العايدي تحدث عن أن مثل هذه المؤتمرات تساعد في رأب الاختلافات في المجتمع، مشيرًا إلى أن الإسلام ركز على قضية توحيد المجتمع.
وبين أن الأنبياء في الدين الإسلامي جاءوا لدعوة الناس إلى الحسنى، على مستوى القول والفعل، حيث ورد في القرآن: "وقولوا للناس حسنى".
وتابع في حواره: " بالتصور الإسلامي، الإنسان مطلوب منه أن يكون ذو كلام حسنٍ مع الناس جميعًا باختلاف معتقداتهم وأعراقهم".
وأكد أن الأخلاق في الدين الإسلامي لا تتجزأ، حيث أمرنا الله أن "نحسن من سلوكنا إلى الأفضل، وبناء على ذلك جاء ذم الغشاشين والكاذبين".
وذكر أن فلسفة الإسلام تتمثل في عدم النظر إلى المرض كأنه عقاب للبشر، قائلًا: "الله يعامل الناس برحمته، لذلك ينظر الإسلام للمرض على أنه ابتلاء، أي امتحان قد ينجح فيه المرء أو يرسب".
خطورة الفيروس
فيروس نقص المناعة البشري HIV هو واحد من أخطر الأوبئة التي واجهها العالم، إذ يقدر عدد المصابين به عالميًا بنحو 39.9 مليون شخص حتى نهاية العام الماضي، بحسب تقارير برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز.
الإصابات لم تفرق بين طفل رضيع أو جنين في بطن أمه أو طبيب تعرض لإصابة خلال تأدية عمله ما أدى إلى انتقال الفيروس إلى جسده من دون علمه.
وينتقل فيروس نقص المناعة البشري (HIV) من خلال:
* الاتصال الجنسي غير الآمن:
* الممارسات الجنسية دون استخدام وسائل الوقاية (كالواقي الذكري).
* يشمل الاتصال المهبلي، الشرجي، أو الفموي مع شخص مصاب.
* الدم الملوث:
* نقل الدم أو منتجاته دون فحص.
* استخدام أدوات حادة ملوثة (الإبر، الشفرات).
* من الأم إلى الطفل:
* أثناء الحمل.
* خلال الولادة.
* عبر الرضاعة الطبيعية.
* تعاطي المخدرات:
* مشاركة الإبر أو أدوات الحقن بين متعاطي المخدرات.
* إصابات مهنية:
* تعرض العاملين في القطاع الصحي لإبر ملوثة أو سوائل جسم المصابين.
لا إعدام للناس اجتماعيا بالدين الإسلامي
حول هذا الأمر، أشار العايدي إلى أن فيروس كورونا يعد مثالًا للابتلاء الذي أصاب البشر جميعًا، ليعين أحدهم الآخر، مشيرًا إلى أن المرض لا يختص بأشخاص دون غيرهم.
وأضاف: "يصاب بمرض الإيدز أطفال وأجنة في بطون أمهاتهم، ويجب أن نتعامل مع المرض بالمنظومة العامة من خلال عدم إعدام الناس اجتماعيًا".
وأكد أن المرء لا يمكن أن يصل إلى الكمال البشري إلا من خلال مواجهة الابتلاءات التي تصقل شخصيته، موضحًا أن الأنبياء ابتلاهم الله، وهذا الابتلاء هو الذي يكمل النفس البشرية، حسب تعبيره.
الإسلام عالج الوصمة
أوضح العايدي أن الإسلام عالج الوصمة الاجتماعية من خلال منع إعدام الإنسان اجتماعيًا، باعتبار أن التضييق على الفرد قد يجبره على الصمت عن مرضه، وهو ما قد يؤدي إلى إصابة غيره بالعدوى.
وتابع: "بالمنظور الشرعي، وجب على المريض أن يتلقى العلاج، ومن يضيق عليه سواء بكلمة أو تصرف يُعتبر آثمًا لأنه منع إنسانًا من حقه في العلاج".
الوصمة من منظور الدين المسيحي
لطالما كان للكنيسة جذور عميقة في المنطقة، ولطالما حضرت في مناقشة القضايا التي تهم المجتمعات البشرية.
وتلعب الكنائس دورًا هامًا في نشر التوعية ومحاربة ثقافة الوصمة من خلال دعم المتعايشين وتقديم النصيحة لهم.
وفي هذا الصدد، قال مؤسس ومدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في عمان، الأب الدكتور رفعت بدر، إن البعض لا زال يعتقد أن الوصمة ثقافة نابعة من الدين، فكيف عالج الدين ذلك الأمر؟
وأوضح بدر أن الكنيسة تتخذ من الكتاب المقدس نقطة انطلاق في التعامل مع فيروس نقص المناعة البشري، مبينًا أنه لا يمكن الإدانة أو التمييز أو إطلاق وصمة اجتماعية ضد المصابين.
وأكد أن الكنيسة تدعو أبناءها ليعيشوا حياة أخلاقية تبشر بالمحبة من جهة، وتدعم الأشخاص الذين يتعايشون مع الفيروس وتمنحهم الرأفة والرحمة من جهة أخرى.
وتابع: "اليوم نتحدث عن أشخاص أعزاء يتعايشون مع المرض، والوصم هو ربط سلبي بين شخص أو مجموعة من الأشخاص يشتركون في خصائص معينة مع مرض ما".
كيف نتجاوب مع الوصم؟
ولما للوصم من تأثير سلبي على المجتمعات والمتعايشين، ومخاطر من زيادة نسب الإصابات وانعدام الرغبة في الحصول على العلاج، لعبت الأديان دورا بارزا في محاولة رأب الصدع.
الأرب رفعت بدر أوضح أنه يمكننا التجاوب مع الوصم من خلال الإنجيل المقدس، حيث قال المسيح: "لا تدينوا لئلا تدانوا".
وبيّن أن الوصم "إدانة تشبه وضع الشخص نفسه مكان الخالق، الذي هو الديان الوحيد"، مشيرًا إلى أن الوصم يتعارض مع جوهر الرسالة المسيحية المتمثلة في وصية المحبة.
وأضاف أن الكنيسة تعد مستشفى ميدانيًا، حيث تقدم العديد من العلاجات، وخاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وأشار إلى أن الكنيسة تدير 18 ألف عيادة لعلاج مرضى الإيدز، بالإضافة إلى العديد من المراكز الأخرى، مما يجعلها أكبر مقدم خاص لعلاج المرضى.
وبيّن أن هناك أدوات محبة للاعتناء بالمصابين، وهي:
* المحبة غير المشروطة.
* المبادئ: الإيدز مرض بشري يجب أن نستجيب له بطريقة تتفق مع أفضل المعلومات الطبية والعلمية المتاحة.
* تقديم عرض واضح للتعاليم الأخلاقية الكاثوليكية فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية.
وفي ختام كلمته، دعا بدر إلى تطوير مناهج تعليمية للتوعية والحد من انتشار المرض.
الوصمة من منظور حقوق الإنسان
وفي سياق مختلف عن الأديان، كانت حقوق المتعايشين مع المرض، أو هؤلاء المصابين بأمراض أخرى، كانت حاضرة على رأس أولويات مواثيق حقوق الإنسان، لما لذلك من تأثير على منظومة حياتهم ومستقبل علاجهم.
في هذا الشأن تحدث الدكتور محمد الطراونة، نائب رئيس محكمة التمييز وعضو مجلس أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان، عن كيفية إسهام حقوق الإنسان في تقليل الأثر الضار على المصابين والمتعايشين.
وجّه الطراونة تحيته إلى الكوادر الطبية في العالم، وخاصة الكوادر الطبية العاملة في غزة تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي.
وأشار الطراونة إلى أن الأردن يتمتع بتقدم طبي على مستوى الشرق الأوسط، خاصة في صناعة الأدوية، حيث يصدرها إلى العديد من الدول.
وأضاف: "لدينا مشكلة في الوصمة تجاه المصابين بأمراض معينة، ومن المهم الاعتراف بوجود هذه المشكلة".
وأوضح أن هناك موروثًا اجتماعيًا يعتبر التوعية نوعًا من الانحلال، مشيرًا إلى أن هذا الاعتقاد خاطئ تمامًا.
وأكد الطراونة أن الحق في الصحة يُعد من أهم الحقوق، موضحًا أن الحقوق الصحية تفوقت على الحقوق المدنية والسياسية لأول مرة منذ عام 1948، خلال جائحة كورونا.
وبيّن أن مرض الإيدز بلاء قد ينتقل بطرق مختلفة، مشيرًا إلى أن قيام شخص مصاب بممارسة الجنس مع شخص آخر مع علمه بحمله للفيروس يُعد جريمة يعاقب عليها القانون.
كما ذكر أن هناك ثلاث دول إفريقية تجاوزت نسبة المصابين فيها بالفيروس 50%، نتيجة طرق انتقال مختلفة.
وأكد الطراونة أن الاعتراف بالمشكلة يشكل الجزء الأكبر من حلها، مضيفًا أن المصاب بالإيدز هو إنسان كأي مريض آخر، ولا يجوز التمييز أو التنمر عليه.
وختم حديثه بتأكيد حقوق المصابين القانونية، وهي:
* الحق في الحصول على الرعاية الصحية والعلاجات.
* الحق في المعاملة الإنسانية.
* الحق في عدم العزل عن المجتمع.
* الحق في الحفاظ على سرية بياناتهم الشخصية.
مركز سواعد التغيير
ويذكر أن مركز سواعد التغيير لتمكين المجتمع عقد المؤتمر العلمي الثاني تحت عنوان "الاستجابة الوطنية للصحة الإنجابية وفيروس نقص المناعة البشري بين التحديات والتطلعات"، يوم الثلاثاء، بمشاركة محلية وأممية.
رعى المؤتمر رئيس مجلس الأعيان، دولة فيصل الفايز، وحضر نائبه العين الدكتور ياسين الحسبان، رئيس لجنة الصحة والبيئة والسكان في مجلس الأعيان ووزير الصحة الأسبق.
ناقش المؤتمر الوطني الثاني لفيروس نقص المناعة البشري والصحة الإنجابية والجنسية، الذي يُعقد على مدار يومين، قضية تمثل تحديًا صحيًا وإنسانيًا على المستويين العالمي والمحلي: مرض نقص المناعة البشري (HIV).
وشهد المؤتمر مشاركة محلية وإقليمية واسعة من وزارة الصحة الأردنية، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، وعدد من الخبراء والأكاديميين.
وأطلق مركز سواعد التغيير حملة "كلنا Positive - كلنا إيجابيون"، من خلال عرض فيلم قصير ناقش الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإيدز وآثارها على تلقي العلاج لدى المصابين.
وأكد المركز أنه سيواصل إطلاق الحملة سنويًا إلى حين تحقيق التغيير المنشود في الوعي المجتمعي حول الإيدز.
0 تعليق