لم يكن نبأ فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية نبأ سارّاً لعموم القادة الأوروبيين، الذين كانوا يأملون استمرار نهج الرئيس الديمقراطي المنتهية ولايته جو بايدن، فيما لو فازت نائبته كامالا هاريس بالانتخابات، فقد عرفت العلاقات الأوروبية الأمريكية توترات ومشكلات وصعوبات في الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، بين عامي 2016 و2020، وأثار ترامب خلالها عدداً من القضايا الحيوية بين بلاده وأوروبا، المتعلقة بدور حلف الأطلسي، واستمرار أهميته، وضرورة التزام الدول الأوروبية بحدّ الإنفاق المتّفق عليه في الحلف، وهو 2% من الناتج القومي للدول المنضوية فيه، والذي كانت الكثير من دول الاتحاد غير ملتزمة به، تاركة العبء المالي الأكبر على عاتق ميزانية الدفاع القومية الأمريكية.
في عهد الرئيس بايدن، اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، في فبراير/ شباط 2022، من دون أن تمنح واشنطن آنذاك الدبلوماسية فرصة كافية، لمنع قيام الحرب، متجاهلة بذلك ضرورة التفاوض الجدي على أمن روسيا من جهة، وأمن أوروبا من جهة ثانية، وقد زجّت الحرب أوروبا كلّها في سؤال مستقبل الاستقرار في القارة، وتكلفته الأمنية والعسكرية والمالية، في الوقت الذي كانت فيه اقتصادات الدول الأوروبية، لم تتعافَ بعد من الأضرار الكبيرة التي خلّفتها جائحة كورونا عليها، وقد وضعت دول أوروبا الأساسية أمام تحدي القدرة على تغذية كييف بالموارد المالية والأسلحة، على الرغم من المعاناة الاقتصادية التي تعيشها، وما ترافق معها من أزمات سياسية.
في العامين الأخيرين، انعكست الحرب الروسية الأوكرانية على المزاج السياسي الداخلي في أوروبا، فقد أثارت انقساماً داخل قوى اليسار، والمحسوبة عليه، ووحّدت إلى حدّ كبير قوى اليمن ويمين الوسط، فقوى اليمين الأوروبي أصبحت تقف على ضفة مضادة، ليس فقط للحرب، بل تعلن مواقف أقرب إلى موسكو، فهي ترى أنه كان بالإمكان تلافي الحرب، كما أنها تنظر إلى الأكلاف المالية التي وقعت على عاتق ميزانيات أوروبا على أنها ورطة غير ضرورية، وهي تصبّ أولاً وأخيراً في مصلحة واشنطن، وليس في مصلحة أوروبا، التي تعاني أصلاً التحوّلات الناشئة في السوق العالمية، وتحديداً في مجالات الصناعات الإلكترونية الفائقة الدقة، حيث تتأخر أوروبا بأشواط عن أمريكا، والصين، وكوريا الجنوبية، واليابان.
مع عودة ترامب للحكم، يعود سؤال حاجة أوروبا إلى منظومة دفاعية أمنية مستقلة عن واشنطن، ووجهة النظر الأكثر دفعاً بهذا الاتجاه تأتي من باريس، التي طرحت هذا السؤال مرات عدة في السنوات الأخيرة، لكن ألمانيا، التي لا تزال في اعتبار الكثيرين قاطرة الاقتصاد الأوروبي، لم تبدِ أي تأييد علني لهذا الاتجاه، بل على العكس من ذلك، فإن مواقف اليسار واليمين الألماني تبدو متحفظة تجاه طرح استقلالية أوروبا عن واشنطن، فخلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية أمكن لألمانيا أن تعود إلى واجهة الاقتصاد الأوروبي والعالمي، بفضل منحها واشنط ن تفويضاً دفاعياً وأمنياً من خلال حلف الأطلسي، وأن تتفرّغ فعلياً لتطوير بناها التحتية، وتطوير منتجاتها التكنولوجية، والاستيلاء على حصة كبيرة من الأسواق العالمية.
وبالتالي فإن أي انخراط باتجاه بناء استقلالية دفاعية وأمنية أوروبية عن واشنطن يعني وبشكل مباشر وواضح أن تسهم ألمانيا بالقسط المالي الأكبر، ما يعني أعباءً إضافية تثقل كاهل الاقتصاد أولاً، ودولة الرعاية ثانياً، في الوقت الذي تعاني فيه ألمانيا تباطؤاً اقتصادياً على وقع التحولات الاقتصادية العالمية.
كل المؤشرات السياسية والاقتصادية والمالية تقول إن هامش التفاوض الأمني والدفاعي مع واشنطن في الولاية الجديدة للرئيس ترامب يبدو محدوداً، وغير مرغوب فيه لدى معظم الدول الأوروبية، وإنه من الأفضل والأسهل الالتزام المالي بحلف الأطلسي، وزيادة الإنفاق الدفاعي لكلّ دولة على حدة، وضمن ضرورات وأولويات أمنها القومي، بدلاً من تبنّي مشروع استراتيجي للاستقلال الدفاعي والأمني، فإنضاج مشروع مثل هذا يحتاج إلى سنوات طويلة، وربما عقود، وإلى ميزانيات هائلة، لا يمكن التنبؤ بآثارها الاقتصادية على أوروبا، أو مدى إحداثها انقسامات سياسية بين الدول الأعضاء، أو حتى التنافس على المؤسسات، وبناءً على ذلك، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو الرضوخ لتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة في مجالات الدفاع والأمن ضمن أوروبا، مع إبقاء هامش للمناورة.
هناك ملفّان يؤرقان أوروبا في العلاقة المقبلة مع ترامب، الأول مرتبط بتوجهات ترامب الضريبية تجاه صادرات أوروبا لبلاده، خصوصاً الحديد والصلب، ففي حال فرض ترامب المزيد من الحمائية ستزداد معاناة عدد رئيسي من القطاعات الصناعية الأوروبية، التي تعاني أصلاً، والملف الثاني هو ملف الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أعلن ترامب مراراً خلال حملته الانتخابية، أنه قادر على وقف الحرب، لكن حتى لو كان ذلك ممكناً، فما التكلفة الاستراتيجية التي ستدفعها أوروبا، خصوصاً أن وقف الحرب يعني من الناحية العملية إقناع روسيا، وهو ما سيستلزم منحها مكاسب، ليس فقط الاعتراف لها بما كسبته من أراضٍ أوكرانية في الحرب، وإسقاط العقوبات عنها، بل منحها المكسب الأكبر، الاعتراف لها بنفوذ كبير في أوروبا، ومكافأتها على شنّ الحرب.
0 تعليق