د. ناصر زيدان
الاتصال الهاتفي الذي أجراه المستشار الألماني أولاف شولتس بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة في 15 تشرين الثاني/نوفمبر؛ كان حدثاً جديداً بامتياز، فهو الأول بينهما منذ ما يزيد عن العامين، وقد استمرَّ ساعة كاملة، ورافقته دهشة أوكرانية وأوروبية واضحة، برغم أن شولتس كان قد اتصل بالرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي قبل مباحثاته مع بوتين، لكن زيلينسكي لم يكُن مرتاحاً للمبادرة الألمانية الجديدة، واعتبرها تشجيعاً للعدوان وستقوي موقف روسيا على الأرض، في أي مفاوضات سلمية مقبلة.
المبادرة الألمانية لم تأتِ من فراغ، فآخر استطلاعات الرأي التي نشرت في برلين تُشير إلى تقدُّم مؤيدي إعادة العلاقات مع روسيا إلى ما يقارب 60%، وهؤلاء يؤيدون إنهاء الحرب في أوكرانيا، كما أن شعبية أحزاب الائتلاف الحكومي الحالي الذي يرأسه شولتس؛ تراجعت، مع تسجيل تحسُّن واضح لمصلحة التركيبة التي قادتها المستشارة السابقة إنجيلا ميركل، بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، ولجوء المستشار شولتس إلى الدعوة لانتخابات برلمانية مُبكرة في 23 شباط/ فبراير المقبل، بينما موعدها الدستوري العادي مقرراً أواخر 2025.
وقد يكون العامل الأهم الذي دفع شولتس للإقدام على هذه الخطوة تجاه روسيا؛ خوفه –كما أغلبية الأوروبيين– من الرؤى السياسية الجديدة التي ترسمها الإدارة الأمريكية القادمة برئاسة دونالد ترامب، ولا يَخفى على أحد كون الرئيس ترامب يرغب بإنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، وهو لا يتعاطف مع حلفائه الأوروبيين، ويطالبهم بتحمُّل كامل الأعباء المالية التي تفرضها حماية القارة من الناحية العسكرية، والقادة الأوروبيون يتوجسون من توجهات ترامب التي لا تتضمن عاطفة أمريكية كافية على القارة الحليفة.
ألمانيا هي الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث ترتيب التقديمات المالية والعسكرية التي تمنحها لأوكرانيا، وقد أرهقت هذه الحرب الاقتصاد الألماني من جوانب عديدة، فهي إضافةً للمساعدات الكبيرة التي تقدمها لكييف؛ استوعبت العدد الأكبر من النازحين الأوكرانيين، وخسرت مبالغ طائلة من جراء ارتفاع قيمة وارداتها من النفط والغاز، بعد فرض العقوبات على الصادرات الروسية التي كانت تصلها بأسعار أرخص، كما أن شركاتها هي المتضرِّر الأول من تفجير خط «نورد ستريم-2» الذي كان ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر بحر البلطيق، وعلى هذه الشركات الألمانية ديون طائلة من جرّاء بنائها للخط الذي زادت تكاليفه عن 11 مليار يورو، ولم تتمكن من استيفاء قيمة هذه الاستثمارات بعد.
وفقاً لبيان صادر عن الحكومة الألمانية؛ فقد حثَّ المستشار شولتس الرئيس بوتين على إيقاف الحرب لأنها تدمِّر مقومات البلدين وتُرهق أوروبا، وطالبه بسحب قواته من الأراضي الأوكرانية التي دخلتها بعد 20 شباط/ فبراير 2022، أما البيان الصادر عن الكرملين؛ فقد أشار إلى أن الرئيس بوتين أكد لشولتس بأن الحل يجب أن يأخذ بالاعتبار «الواقع الجديد على الأرض» ومعالجة أسباب النزاع، والمقصود بطبيعة الحال عدم تحويل أوكرانيا لمصدر تهديد للأمن القومي لروسيا، وأكد أن روسيا لم ترفض في أي يوم مساعي الوصول لحل دبلوماسي، ولا تزال منفتحة على المفاوضات، بينما كييف هي التي أوقفت الحوار (وفق ما جاء في بيان الكرملين).
يقول المتابعون المقيمون في برلين: إن شولتس يحاول الاستفادة من المرحلة الانتقالية التي تفصل عن 20 كانون الثاني/يناير 2025 تاريخ استلام الرئيس ترامب للسلطة في واشنطن، لتوليف حلول لمشكلة أوكرانيا، بما يجنِّب بلاده والأوروبيين ابتزازاً مؤكداً في المستقبل، وأغلبية قادة الاتحاد توافقه على هذا التوجُّه، بما فيهم فرنسا، ورئيسها إيمانويل ماكرون لم يخفِ رغبة القارة بأن يكون لها مشروع دفاعي خاص، بحيث لا تعتمد على التحالفات الخارجية بهذا الشأن، وهو يقصد «الحماية الأمريكية» بطبيعة الحال.
ألمانيا كانت قد دخلت في سباق الحرب، وهي أعادت فرض التجنيد الإجباري على الشباب، وهذا الأمر كان متوقفاً منذ ما بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، كما زادت من اعتماداتها الدفاعية بما يتجاوز 2% من إنتاجها لوطني، وهو ما يفيض عما حددته قمة حلف شمالي الأطلسي التي عقدت في تموز/يوليو 2024 في واشنطن، وقد لحظت موازنة العام 2025 مبلغ 72.3 مليار يورو للإنفاق في مجال الأمن والدفاع في ألمانيا، بعد أن كانت 53 ملياراً، ويتوقع أن تصبح بحدود 80 ملياراً في العام 2028، وهذه الزيادات ستستهلك النمو الذي حصل بعد إدخال قوى عاملة مُنتجة من المهاجرين أيام ولاية المستشارة ميركل، وهو ما عرَّضها لحملة شعواء في حينها من قبل القوميين المتشددين أدت لخسارة حزبها في انتخابات العام 2021.
الولايات المتحدة دشَّنت قاعدة عسكرية دائمة في ريدزيكوفو ببولندا ولا تبعد أكثر من 165 كلم عن الحدود الروسية، وقادرة على إطلاق صواريخ استراتيجية، وهو ما يعتبر مؤشراً مقلقاً، وهي القاعدة الأمريكية الثانية بهذا الحجم في أوروبا بعد قاعدة رومانيا التي دشنتها عام 2016.
تحاول ألمانيا مع حلفائها الأوروبيين إعادة الإمساك بزمام المبادرة، وبرلين لا تستطيع إخفاء كونها الدولة الأكثر تأثُراً بما يجري في أوكرانيا، وخطوة شولتس الأخيرة ليست خبراً عادياً.
0 تعليق