في عصر محمّل بالمظاهر، والقدرة على صناعة مظهر اجتماعي ما، لم يعد التواضع كما كان يعرف، صفة أصيلة تنبع من احترام النفس والآخرين، بل تحوّل في بعض الأحيان إلى وسيلة خفية للتفاخر، يُستخدم لجذب الانتباه، أو تعزيز الصورة الذاتية أمام الآخرين، هذا النوع الجديد من التواضع، الذي يمكن تسميته «التواضع المزيف»، أصبح شائعاً في عالمنا الرقمي، حيث تعرض الفضائل كما لو أنها سلع تسوّق لجمهور واسع.
التواضع المزيف يظهر غالباً من خلال عبارات تبدو نبيلة، لكنها تحمل في طياتها رسالة تفاخر. شخص يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي: «لم أكن أتوقع هذا النجاح، أشعر أنني لا أستحقه»، وفي منشورات لاحقة يُعلي من قيمة هذا النجاح، وأنه بسبب الذكاء، ونتيجة لسرعة البديهة وغيرها من الصفات، ويتضح بشكل متتالٍ أن الهدف هنا ليس التعبير عن الامتنان، بل حصد الإطراء والتقدير، بطريقة ملتوية.
جزء من هذا السلوك، يعود إلى طبيعة مجتمعات اليوم، التي أصبحت تهتم بالمظاهر وتشجع على مشاركة كل تفاصيل الحياة، حتى اللحظات التي كان من المفترض أن تبقى خاصة. لذا في محاولة لموازنة الرغبة في التباهي مع الحاجة للحفاظ على صورة أخلاقية، يظهر التواضع المزيف كحل مثالي، الشخص يبدو متواضعاً، بينما يحصد الإعجاب والاهتمام، بسبب التباهي والتفاخر، بجوانب قد تكون مادية.
التواضع المزيف، ليس بلا عواقب، عندما يتحول التواضع إلى وسيلة للتفاخر، يفقد معناه الأصلي كفضيلة أخلاقية، يصبح أداة للسطحية بدلاً من كونه انعكاساً للقوة الداخلية والنضج، كما أن هذا السلوك قد يؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس، إذ يصبح من الصعب التفريق بين التواضع الحقيقي والمزيف.
لمواجهة هذه الظاهرة، علينا أن نعيد التفكير في معنى التواضع ودوره في حياتنا، التواضع الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان أو إثبات، فهو يظهر في أفعالنا البسيطة، وفي طريقة تعاملنا مع الآخرين من دون ضجيج، إنه الاعتراف بإنسانيتنا، بحدودنا وإنجازاتنا، من دون الحاجة لتضخيمها أو التقليل منها.
في عالم يصنع قيماً مزيفة، على مواقع التواصل الاجتماعي تحديداً، يصبح التواضع الحقيقي عملة نادرة، لكنه في الوقت ذاته مفتاح لبناء علاقات أعمق وأكثر صدقاً، بدلاً من السعي وراء التقدير الخارجي، لذا من المهم التركيز على أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين، فبهذه الطريقة، نستعيد للتواضع معناه الحقيقي، كقيمة نبيلة تستحق الاحترام، وليس كوسيلة لتحقيق الإعجاب.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com
0 تعليق