لسنا وحدنا من نفكر بلغتنا العربية ونفخر بما تملكه، فهي لا تشبه بتاريخها ووجودها أي هوية أو لغة أخرى في العالم وقد استطاعت أن تحفظ ذاكرة البشرية، وأن توثق العلوم والفنون والفلسفات التي نقلتها من حضارات الشرق والغرب على ألسنة علمائها وأهل الفكر والمعرفة، لتصبح جسراً عبرت عليه الفلسفة إلى أوروبا والغرب ومن خلالها انبثق عصور التنوير.
وليس جديداً القول بأن كل من تعلم أصولها وقرأ وكتب بها يفخر بمعرفته بها، كما قال الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي أرنست رينان بأن «اللغة العربية بدأت بغاية الكمال وهي أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت كاملة ولم تتغير حتى الآن»، والمستشرق «ويليام جونز» الذي تعلم اللغة العربية منذ طفولته، وقال عنها «العربية تفوق جميع لغات العالم في غنى مفرداتها ودقة معانيها وبلاغتها» وغيرهم كثر.
وعندما نتحدث عن اللغة العربية وضرورة المحافظة عليها، فنحن لا نعني بذلك خشيتنا من تعرضها للضياع أو الانقراض؛ لأنها عنصر من عناصر هويتنا ووعاء فكرنا وتراثنا والأداة التي تقاس بها ثقافتنا ورقينا وفصاحتنا، بل حسرة على ما يخسره أبناؤنا بابتعادهم عنها مقابل تلهّف الآخر على تعلمها لما تملكه من جماليات وسحر في البلاغة.
ويجب أن يتجاوز احتفالنا الحقيقي باللغة العربية إقامة الفعاليات والسعي لربط الأجيال الشابة عاطفياً بلغتهم، بدعوتهم لاستكشاف جمالياتها والتقرب منها بصفتها رمز الهوية والانتماء ولغة العلوم والحضارة والنور الذي أرسل به القرآن الكريم لهداية البشرية.
ورغم ما يقال عما يواجه اللغة العربية من تحديات في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة، فلا بد من القول بأن التكنولوجيا مجرد وعاء نسعى من خلاله إلى تعزيز تعليم لغتنا بطرائق متطورة تتناسب مع اهتمامات وإمكانات الجيل الجديد. وعدم قدرة التكنولوجيا على استيعاب اللغة العربية بسهولة لا يعتبر من التحديات التي تمس قوة اللغة ولا إمكاناتها أو جمالياتها، بل تعكس قصر إمكانات التكنولوجيا وعلمائها عن تطويعها لاستيعاب العربية بأساليب تغاير ما تجذب به لغات أخرى لا تملك ما تملكه العربية من حروف و مفردات وجماليات ولوحات فنية وجماليات معمارية ومساحات فكرية وثقافية هائلة يصعب إتقانها أو حتى استرجاعها بسهولة.
ولا ننسى دور اللغة العربية إضافة إلى إمكاناتها التعبيرية واللغوية في نقل التراث بما تملكه من تاريخ حافل بقصص وشخصيات وحضارات وسير عبرت القرون، ولربما تكون هي اللغة الأبرز في تعزيز مشاعر الولاء والانتماء في قلوب الأجيال بما تحمله من مواقف وأحداث وقصائد وقيم لم تغيرها الكوارث ولا عثرات السنين.
ولا يمكن التعويل على يوم لإبراز أهمية اللغة العربية وقيمتها وقيمها ولا الاكتفاء بمحاضرات تنظم لسرد تاريخها، بل من المهم غرس الوعي والإدراك بدور اللغة في بناء الهوية الوطنية والثقافية وتعزيز أصالتها والثقة برمزها للوحدة وارتباط الأجيال بتاريخ ثقافي عظيم بشكل يومي، ومن خلال دمج قصص وتواريخ وأفكار أعمدة الأدب والعلم والفكر في إعلامنا و مناهجنا التعليمية والفخر بأمجادهم.
إن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية ليس مجرد مناسبة، بل فرصة لإضاءة منجزاتنا التي أسهمت في تقريب اللغة من الأجيال الشابة، وجعلها أداة لتعزيز الانتماء للعائلة والوطن؛ فاللغة ليست مجرد أداة تواصل بل جامعة فكر ومدرسة علم وأدب وقيم.
ولقد أولت دولة الإمارات العربية المتحدة اهتماماً بالغاً للغة العربية من خلال رؤية مستقبلية لدعم وتمكين الأجيال الجديدة منها، ومن خلال جعلها حاضرة في كل مجالات الحياة، ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل كرمز للهوية والولاء والانتماء إلى الوطن والأمة.
0 تعليق