خطوط التجارة.. بؤرة الصراع الجديدة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

التجارة الدولية في السلع تتم بواسطة وسائل النقل البرية والبحرية والجوية. لكن 90% من هذه التجارة يتم عبر شبكة خطوط الملاحة البحرية. والتجارة البحرية هي المحرك الديناميكي الأساسي للاقتصاد العالمي. ونتيجة لضخامة حجم هذا النشاط وأهميته بالنسبة للاقتصاد العالمي، كان لابد أن تنظمه قوانين بحار دولية ونشاط تأميني ضخم، وقوانين مؤمنة لسلامة البيئة البحرية وجميع العمليات البحرية ذات الصلة. وإذا كان إجمالي الناتج المحلي العالمي قد بلغ في 2023، 105.4 تريليون دولار، فإن حصة التجارة العالمية في السلع والخدمات كنسبة مئوية من هذا الإجمالي بلغت في نفس العام 30.5 تريليون دولار، بنسبة 28.9%.
وتتمظهر الأهمية المتصاعدة للتجارة العالمية في السلع بالنسبة لديناميات موازين القوى العالمية، في الصراع التجاري المتصاعد بين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، الذي بدأ يخرج عن السيطرة متمثلاً في عودة النزعات الحمائية (Protectionism)، حيث راح المتنافسون التجاريون الكبار يتبادلون «الضربات»، بتعلية سقوف الرسوم الجمركية إلى حدود معطلة لانسياب التجارة في السلع عبر الحدود.
والخشية، كل الخشية، من أن ينتقل الصراع إلى طور جديد يتمثل في محاولة السيطرة على خطوط الملاحة البحرية التي تمر عبرها السفن المحملة بالبضائع والمنتجات. فبعد الصراع الأمريكي الصيني حول معابر بحر الصين الجنوبي، فُتحت جبهة صراع جديدة في البحر الأسود بين روسيا وأمريكا على خلفية الحرب الأوكرانية. وقبيل أعياد الميلاد 2024، أطلق الرئيس دونالد ترامب تصريحات تشي بأنه سيتبع نهجاً أكثر عدوانية في سياسة أمريكا الخارجية. فتحدث «مازحاً» عن كون كندا ولاية أمريكية إضافية. كما هدد باستعادة السيطرة على قناة بنما. واستعاد رغبته في امتلاك إقليم جرينلاند الدانماركي. السؤال الآن ليس عما إذا كانت تهديدات ترامب جادة بشأن قناة بنما أم لا، وإنما عن الأهمية الاستراتيجية لهذا الشريان التجاري العالمي الذي قفز فجأة إلى واجهة الأحداث.
كانت الولايات المتحدة تريد بناء قناة عبر برزخ بنما في القرن التاسع عشر. ولكنها واجهت مشكلة: فالأرض المطلوبة لبناء القناة (منطقة القناة) كانت مملوكة لجهة أخرى، كولومبيا. وافقت كولومبيا على طلب الولايات المتحدة بناء القناة وتشغيلها، أو بالأحرى استكمال البناء الذي فشل الفرنسيون في إنهائه، بشرط احتفاظ كولومبيا بالسيادة على منطقة القناة. رفض المفاوضون الأمريكيون هذا الموقف وأصروا على أن الولايات المتحدة لابد أن تسيطر على منطقة القناة. ولما رفض المشرعون الكولومبيون هذا الموقف، قامت الولايات المتحدة بغزو كولومبيا في عام 1903، ودعمت التمرد الانفصالي في منطقة بنما، ومنعت القوات الكولومبية بالقوة من احتواء التمرد وإعادة فرض السيطرة على المنطقة. وأعلن الانفصاليون دولة مستقلة بدعم من الولايات المتحدة، وأعطوا الولايات المتحدة على الفور ما أرادته: السيادة الكاملة على منطقة القناة. حدث ذلك إبان ولاية الرئيس ثيودور روزفلت. حكمت الولايات المتحدة منطقة القناة باعتبارها إقليماً سيادياً خاصاً بها (مستعمرة) حتى عام 1979، عندما تحولت إلى سيطرة مشتركة مع بنما. لم تتم استعادة السيادة البنمية الكاملة إلا في عام 1999. أما عن من بنى القناة، فقد تم إنشاؤها بواسطة 100000 عامل، معظمهم من أصل إفريقي كاريبي من جزر الهند الغربية، الذين عملوا في ظــروف قـــاسيـــة وخطيرة للغاية، وقـــاموا بواحدة مـــن أكثـــر المهام الهندسية تحدياً في التاريـــخ. توفـــي نحـــو 20% منهـــم أثنـاء العمل.
افتُتحت القناة في عام 1914 بعد عشر سنوات من البناء الذي أشرفت عليه ومولته أمريكا بتكلفة تقدرها النخبة الأمريكية الحاكمة بأكثر من 15 مليار دولار بأموال اليوم. وبقيت القناة تحت سيطرتها المباشرة حتى عام 1999 عندما قررت واشنطن في إطار سياسة الانفراج الدولي وتنفيس الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، إبان ولاية جيمي كارتر في 1979، إعادة جزء من السيادة على القناة إلى بنما إنما بشروط معاهدة تم إبرامها عام 1979 تضمنت حق الولايات المتحدة في الاحتفاظ بوجودها العسكري في منطقة القناة. كان من المقرر أن يتم تسليم القناة إلى بنما جزئياً في عام 1990 ثم بالكامل في عام 2000. لكن توالي انهيار المعسكر الشرقي مع مطلع ثمانينات القرن الماضي، سمح للولايات المتحدة بحكم العالم بصورة منفردة. كانت بنما هدفاً سهلاً لأن الولايات المتحدة كانت تمتلك بالفعل قوة عسكرية ضخمة في 18 قاعدة في مختلف أنحاء بنما. أي أن الجيش الأمريكي كان قادراً على سحق خصم عاجز وضمان السيطرة على أصل استراتيجي حيوي. وهو ما حدث فجر يوم العشرين من ديسمبر 1989، حيث نزلت القوات الأمريكية على مدينة بنما وأطلقت واحدة من أكثر الهجمات عنفاً وتدميراً في القرن العشرين. قتل الكثير من الناس وأحرقت المباني السكنية بشكل منهجي، وأطلقت النار على الناس بلا تمييز في الشوارع؛ وتكدست الجثث فوق بعضها. دين العدوان دولياً، لكن الرسالة كانت واضحة: إن الجيش الأمريكي حر في أن يفعل ما يشاء، متى شاء، ولن يتقيد بالأخلاق أو القوانين.
علماً بأن نحو 6% من التجارة البحرية العالمية يمر عبر قناة بنما، ما يوفر على قطاع النقل البحري 8000 ميل بحري، إضافة إلى 22 يوماً من السفر بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي، ظلت نقطة اختناق اقتصادية واستراتيجية رئيسية لأكثر من قرن. إذ صار بالإمكان عبور القناة العملاقة التي يبلغ طولها 81.5 كم وعرضها 33-150 متراً بواسطة السفن في 8-10 ساعات فقط. وتكسب بنما نحوالي 3.5 مليار دولار سنوياً من رسوم عبور القناة. فلا غرو والحال هذه أن تنضم القناة فجأة إلى قائمة بؤر الصراعات الاقتصادية العالمية الساخنة والباردة.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق