مذهل.. مخيف ذاك التقدم الذي حققته البشرية، خلال العقود الأخيرة، حتى قال بعض الدارسين، إن حجم وقوة التأثير جراء التقدم المتحقق، منذ خمسينات أو ستينات القرن الفائت، أي في غضون أقل من ثمانية إلى تسعة عقود خلت، يفوق ما أنجزته البشرية، منذ بدء الخلق حتى تلك الحقبة (1950-1960)، فأين وكيف بتنا نقف الآن، وإلى أين يمضي بنا تقدم متسارع لا يظله سقف ولا تؤطره حدود؟!
لفتني تشبيه جميل يلخص، على نحو ظريف، مسيرة تقدم البشرية، وعلاقة أجيالنا، التي ما زالت على ظهر البسيطة، بأمم سبقتنا وقالت كلمتها الحضارية.. تخيلوا معي أن قزماً يقف على رأس عملاق، فما الذي يمكن أن يراه؟ ببساطة، سيرى كل ما يقع تحت نظر ذاك العملاق، مع مزيّة رؤية شيء لا يمكن لصديقنا الضخم أن يشاهده.. قفاه أو مؤخرة رأسه!
لذا، فإن من البدهي، أننا رأينا كل إنجازات الأمم، عبر التاريخ، إلى جانب أشياء عشناها واستخدمناها، دون أن يتمكن سابقونا من ذلك.. الاكتشافات والاختراعات التي غيرت وجه العالم، بالتوازي مع تغيير نظرتنا للعلوم.. الإدارة.. الاقتصاد.. التواصل.. المعارف الإنسانية كلها بلا استثناء، علماً بأن تطوراً إبداعياً- خيالياً عاشته الأجيال المعاصرة نفسها، تآكلت وربما انقرضت، خلاله أدوات ومنتجات وآلات تحت طفرة الجديد والمستحدث، خذ مثلاً: أين الصندوق الخشبي، الذي احتل ركناً حصيناً في منازلنا ذات يوم، وكنا نسميه مذياعاً، أين البريد وساعيه العتيد.. محركات وقطارات البخار.. وأين.. أين؟
بالعودة للحديث عن التقدم وأسبابه وأدواته، فإنه لابد أن يُبني على مورد أو أكثر، على الأقل، من موارد مختلفة ومتداخلة، والتي قد تكون طبيعية أو صناعية.. محلية أو مستوردة.. مالية أو بشرية، لكن حجر الأساس في إحداث نهضة تقدمية لدولة أو أخرى، إنما يعتمد على فهم المزايا النسبية للمورد أو جملة الموارد، ومن ثم آليات استغلالها والتكيف معها، لذا فشلت دول ذات موارد ضخمة، فيما نجحت أخرى محدودة أو عديمة الموارد، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد.
أذكر أنني حضرت، قبل أعوام طوال، محاضرة في الرياض لبروفيسور ياباني، يوصف بأنه واحد من عشرات أسهموا في نهضة اليابان، كان حديث الرجل يترك أثراً عجيباً في العقول والنفوس، ومما قال: استفقنا بعد الحرب العالمية الثانية، لنجد أنفسنا أننا دولة باتت منهكة ضعيفة الموارد، وبحثنا عما يمكن أن نصدره، ولم نجد الكثير من المنتجات القابلة للتصدير، وحيث كان شعار «سلوجان».. (صنع في اليابان)، ضعيف الرواج والقبول، نتيجة تواضع قاعدة الصناعات في البلاد.. يضيف: اتفقنا أخيراً، على أن المنتج الياباني الرئيسي الجاهز للتصدير، هو أفكار الناس، لذا بدأنا فعلاً نطور ونوسع الأفكار، إلى أن أصبحت بلادنا في صدارة دول العالم بنهضتها الحضارية الاقتصادية.
وهناك تجارب ونماذج كثيرة لدول نجحت في تحقيق قفزات كبيرة في تقدمها الحضاري والاقتصادي والتنموي، لاسيما عند النظر إلى حيازة أدوات وأسباب هذا التقدم، من بوابة الاستفادة من تجارب الآخرين، لصياغة تجربة وطنية بخبرات وملامح، يتمازج فيها المحلي بالعالمي، بحيث ترتكز هذه التجربة على الجديد في العلوم والمعارف الإنسانية.
إقليمياً، يبدو النموذج التنموي الإماراتي الأكثر حضوراً، بعد تقدم سريع ومركّز حققته دولة الإمارات، دخلت عبره إلى العالمية من أوسع أبوابها، بحيث استطاعت، وعبر خمسة عقود، أن تتصدر الدول العربية في مؤشر التجارة العالمية 2023، وأن تحل في المركز ال31 عالمياً، وفقاً لمؤشر «أجيليتي» اللوجستي، لعام 2024، في موازاة تقدمها إلى المركز الأول إقليمياً و11 عالمياً في قائمة أكثر الدول عصرية في العالم، لعام 2023، بحسب تصنيف لمجلة «سي إي أو وورلد».
إذن، للتقدم مفاتيح وأسرار وأبواب، علينا أن نعلم أيها نمتلك ومن أيها ندخل، ليكون ذاك التقدم حليفنا، في عصر أضحى العقل البشري رافضاً للقوالب التقليدية من التفكير، متقبلاً ومتكيفاً مع مستجدات التحديث، متناغماً مع إيقاع متسارع من النمو والتطور المحكومين بثورات تكنولوجية واتصالية ومعرفية، لا تمنح تذاكر صعود عربتها إلا للمجتهدين والمسايرين لحركتها.
تأسيساً على ذلك، من الطبيعي أن تسترشد المنظمات والدول والتكتلات المختلفة بالتجارب الناجحة، حيثما وجدت، بل من العبث أن تجرب ما ثبت فشله، وظهر عدم جدواه، وقد تضطر لبناء نموذجك الفريد، لأنك ترى خصوصيتك مختلفة، المهم أن تعمل وكفى.
تبقى القاعدة الذهبية في الطريق إلى إحراز تقدم ما أن (مَن لا يتقدم يتقادم)، بمعنى يصبح عتيقاً غير مساير للجديد والمستحدث. هناك ما يشبه النظرية في عالم الإدارة الشاسع، تقضي بأن الناس يتبادلون، كما يتناقلون المعارف، على ثلاثة مستويات، تعرف ب(صانعي وآخذي وكاسري القاعدة)، وأنت لابد، في مرحلة ما من تطور معارفك وخبراتك، أن تكون ضمن أحد هذه المستويات.. كيف؟
يأتي شخص ما، يقول مثلاً: إن سلعة تُصنع من المواد الأولية كذا وكذا، وتسود مثل هذه الصناعة فترات وربما عصوراً زمنية مديدة، ثم يأتي من يطورها جزئياً، تاركاً بصماته الخاصة، من قبيل: زيادة الأداء، وخفض الكلف، وتقليل الحجم، وهكذا، ليأتي شخص ثالث ينسف (يكسر) قواعد هذه الصناعة كلياً.. لننظر وراءنا كيف اعتمد النقل على المحرك البخاري، ثم نظيره الانفجاري (ديزل، بنزين)، فالكهربائي، ولا نعلم ما الذي ستقدمه لنا تقانة المستقبل من ابتكارات مذهلة، الله أجلّ وأعلم.
0 تعليق