الشارقة: جاكاتي الشيخ
رغم تخصص بعض الفنانين المعاصرين في تقنيات الحاسب الآلي، إلا أنهم يفضلون تنفيذ أعمالهم يدوياً، نظراً لما يتيحه العمل اليدوي من فرص لاستغلال سعة الخيال البشري، لتقديم إبداعات مبتكرة لا دور لتدخل أي جهة أخرى في إنتاجها، وهو ما يثبت قدرة هذا الفن على صنع المزيد من الجمال، وهذا ما نجده عند الخطاط الليبي فتحي ميلاد أبو الهوشات.
يعتبر الخطاط فتحي ميلاد أبو الهوشات واحداً من خطاطي الجيل المعاصر، الذين يقدّمون العديد من الأعمال الخطية الرائعة، حيث يعتمد في ذلك على ما اكتسبه من معارف حول فن الخط العربي، الذي بدأ تعلّمه في سنّ مبكرة، وكان يحاول تقليد أعمال كبار الخطاطين التي تقع بين يديه، مدقّقاً في ما يميزّها عن سواها من الأعمال العادية، حتى صار ينفذ أعماله برؤية شخصية، نالت إعجاب العديد من فناني بلاده، والمهتمين بهذا الفن، وخاصة أعماله في خط الكوفي التربيعي، الذي أبدع فيه اللوحة الموجودة بين أيدينا، والتي لم يتأثر في إنجازها بخبرته في التقنيات الحديثة، فجاءت أصيلة.
* موهبة
اختار أبو الهوشات للوحته جزءاً من نص الآية 57 من سورة هود، يقول الله جلّ جلاله: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، وهو يتحدّث عن قدرة الله تبارك وتعالى على التحكّم في مُلكه، ومن ذلك حفظه لأنبيائه وعباده الصالحين، الذين لا يسعون في الأرض فساداً، وقد كتبها فناننا بالخط الكوفي التربيعي، حيث سبق وأشرنا إلى ما يوليه من اهتمام أكثر من غيره من الخطوط، وذلك لمدى تمكّنه من الإبداع به، وإحاطته بخصائصه ومميزاته، التي أسره جمالها، فهو خطّ هندسيّ بامتياز، يستلزم استخدام المسطرة، والقلم والبيكار، لما يجب أن يكون عليه شكل النص المخطوط به من استقامة كُلية، دون أي انحناء أو تقوُّس، حيث تغلب عليه الزوايا القائمة، سواء في تحديد الحروف، أو في تحديد الفراغات، وتتناسق خطوطه من حيث السمك، وتتساوى في التباعد، وهو ما جعله منتشراً في تزيين العمارة الإسلامية منذ القدم، إذ يكسبها جمالاً وأبّهة في المظهر، ورغم ما يبدو عليه من مرونة ووضوح وسهولة، فإنه يتطلب وجود موهبة حقيقية لكي يتسّم بالدقة والجمال، ويُقدَّم فيه الجديد المختلف، وهو ما نرى أن خطاطنا وُفِّق فيه في هذه اللوحة بشكل كبير.
* تكرار
نفذّ أبو شهاب لوحته يدوياً بحبر على ورق، حيث صمّمها في تكوين مربّع، كرّر فيه كتابة النص أربع مرات، مستفيداً من دقّة الأبعاد الهندسية التي يتيحها الخط هذا الأسلوب الخطي، وقد انطلق في كتابة الجزء الواحد برسم «إِنَّ» منفردة وبشكل واضح ليُمكّن المشاهد من قراءة النص بسهولة، وليعكس وظيفتها التأكيدية لما سيرد بعدها في النص، ثم كتب «رَبِّي» في مركز قاعدة كل جزء، وبشكل منفرد وواضح أيضاً، ليوحي بمعنى القدرة الإلهية المتحكَمة في كل المخلوقات، وكأنه يرمز إلى توازن هذا الكون الذي أحسن الله خلقه، ثم كتب «عَلَى» في يمين الجانب العلوي من كل جزء، إشارة إلى عُلو تلك القدرة الإلهية على سواها من القدرات البشرية، وكتب «كُلِّ» في كل جزء متصلة بـ «على» من جزأين، حيث تتصل بألفها في أحدهما ويختزل رأس كافها في الثانية، كما يختزل الجزء السفلي في عصا حرف الظاء من «حفيظ»، ويختزل لامها في الطرف السفلي من ياء «شيء»، ليحقق تجانساً خطياً هندسياً من ناحية، ويعكس معناها الذي لا يستثني شيئاً من ناحية أخرى، وكتب «شَيْءٍ» منفردة في قلب كل جزء من التكوين، لإكمال المعنى السابق في «كل»، وقد جعل الطرف السفلي ليائها ينتهي في بعض الأجزاء ملامساً لعصا حرف الظاء من «حَفِيظ»، كما كتب «حَفِيظ» بشكل واضح، إلا أن الزاوية القائمة المتشكّلة من اختزال عصا ظائها في كاف «كل» وملامستها لياء «شيء»؛ أوحت بالمعنى الدقيق للكلمة الدال على شمولية تحكّم الله في خلقه، وحفظه لما يشاء ومن يشاء من عباده.
لقد أظهرت هذه اللوحة القدرة الخطية التي يمتلكها هذا الفنان، حيث استطاع أن يقدّم للمشاهد ملمحاً جمالياً مُتقناً من ملامح فن الخط العربي الأصيل، مستفيداً من خصائص الكوفي التربيعي المتوازنة، والتي يمكن ملاحظة أهمها في هذا العمل من خلال تماثل أجزاء بعض الحروف المختلفة، وتكرار أجزاء بعض الحروف المحدّدة، كما نرى في حرف العين البارز أربع مرات في وسط التكوين الخطي العام، إضافة إلى ما كان لتموضع النقاط من دور في منح اللوحة تناسقاً بصرياً بديعاً، ثم الألوان المستخدمة في اللوحة، حيث اقتصر على اللون الأسود في حبر كتابته، تعبيراً عن القوة والثبات التي يعكسها معنى النص المكتوب، وعلى خلفية بنية تزيد من عمق ارتباط المشاهد بهذا العمل الجميل.
0 تعليق