الشارقة: جاكاتي الشيخ
لا يزال العديد من الفنانين يتمسّكون بالقوالب التقليدية لفن الخط العربي، التي يرون أن الالتزام بها يؤكد أن جمال هذا الخط إرث لا يندرس، فرغم مضي عدة قرون على ظهور الأساليب الخطية التقليدية؛ إلا أنها ظلت متمسكة بوهجها، ومغرية بجمالها، خاصة عندما يقبل عليها فنان متمرّس، يعرف كيف يبرز مكامن الإبداع فيها، وهو ما يفعله الخطاط الإماراتي حسين علي الهاشمي.
يعتبر الهاشمي أحد أولئك الفنانين الذين ينتمي عملهم إلى الاتجاه الخطي التقليدي، المتمسك بقواعده الأصيلة من أجل المحافظة على الجماليات الموروثة للحرف العربي برونقه المميز، حيث يرتكز في ذلك على إبراز الأشكال الحقيقية لتلك الحروف، مستغلاً إياها في تنفيذ ما تقتضيه العملية الإبداعية من تجديد، من دون أي إخلال بالميزان الضابط للسياق العام لتلك الأساليب، وقد ساعده في ذلك كونه يجيد كتابة أهم الخطوط الكلاسيكية كالثلث والنسخ والديواني، كما يعتمد في جلّ أعماله على خط النصوص الدينية، وغيرها من محتويات التراث العربي والإسلامي، التي يجعلها في قوالب متنوعة تعكس ما تشير إليه مضامينها، مثل ما نجده في اللوحة التي نتناولها هنا.
* قواعد مضبوطة
اختار الهاشمي لهذه اللوحة جزءاً من نص الآية 110 من سورة البقرة، حيث يقول تعالى:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}، وهي آية تحثّ على فعل الخير للآخرين، وتخبر فاعليه بأنهم إنما يقدمّونه لأنفسهم ليجدوا ثوابه عند الله في الدنيا والآخرة، وقد كتب اللوحة بتركيب خط الثلث الجلي، فأبدع في تنفيذها، حيث ضبط قواعد هذا الأسلوب الخطي وموازينه الصعبة، واجتهد على استغلال مرونته، التي تساعد على براعة تأليف الحروف، ومتانة تركيب الكلمات، دون أن ينسى الالتزام بترتيب الكلمات، التي كتبها في تسلسل تصاعدي، وكان تركيبه لها خفيفاً بديعاً، جنَّب اللوحة التعقيد أمام المشاهد، حيث لم يؤثر ذلك في جمالية العمل وتناسق تكوينه، كما تعمّد الإكثار من استخدام النقاط وحركات التشكيل، والتزيينات الزخرفية، التي يغلب الإكثار منها في الثلث الجلي، ما جعل اللوحة تَفي بأهمّ خصائص هذا الأسلوب الخطي.
* تحفة خطيّة
صمّم الهاشمي لوحته في تكوين هرَمي، وكتب نصها في تناظر ذاتي، وبتسلسل تصاعدي دقيق، فجعل «وَمَا تُقَدِّمُوا» في المستوى الأول، كقاعدة للشكل الهرمي، حيث بدأ بكتابة «وَمَا» مادّاً ألفها ليركّبها على ما يرتبط بمعناها من أجزاء النص، ثم كتب «تُقَدِّمُوا» عريضة وبشكل واضح، لأن النص يتناول ما يقدّمه المرء من فعل الخير، وكتب في المستوى الثاني «لِأَنفُسِكُم» منفردة في هيئة كبيرة، لتأكيد عودة فعل الخير على النفس، وقد ركّب لام ألفها على مقطعها الثاني، لتوازي في مدّها ألف «ما»، وتحدث معها تناسقاً بصريّاً، وتواصلا معاً التركيب على ما يرتبط بدلالة «ما» من النص، ثم كتب في المستوى الثالث «مِنْ خَيْرٍ»، حيث ينتهي عند «من» امتداد «ما»، وطرف اللام ألف السابقة، لتكمل دلالة ما سبق من النص، فما يُراد تقديمه في النص (من خير)، وكتب في المستوى الرابع «تَجِدُوهُ» بشكل عريض ليشير إلى قيمة ثواب ذاك الخير المُقدّم، وقد ركّب واوها على «عِندَ» التي كتبها بعين ضخمة لتأكيد عِظَم الثواب، والإشارة إلى من يوجد لديه، وهو «اللَّه» تعالى، حيث كتب اسم الجلالة بشكل واضح في قمّة الهرم.
ويمكن للمشاهد أن يلاحظ أن كل أجزاء النص قد كتبت مكرّرة لتحقيق التناظر الشكلي في التكوين، والتناظر المعنوي الدّال على مقابلة عمل الخير بالثواب، باستثناء اسم الجلالة الذي كُتب مرة واحدة، جامعاً بين جزئي التناظر، للإشارة إلى وحدانية الله، وكونه من يُوَفق لفعل الخير، ومن يجزي عليه.
وهكذا استطاع الهاشمي أن يُبِين عن قدرة فنية عالية، لا تتوقف على ما سلف، بل تبرز كذلك في عدة لمسات، مثل التنويع في شكل الحرف الواحد – كما تسمح خطوط الثلث – وطريقة الزخرفة المحيطة، والمساحة الفاصلة بينها وبين التكوين الخطي، التي توحي بالهَالة الجمالية، واختيار الحبر الأسود الدال على الثقة في الله، والخلفية البرتقالية الرامزة إلى العطاء، وكلها لمسات جمالية تجعل المشاهد أمام تحفة فنية رائعة.
* إضاءة
ولد حسين علي الهاشمي سنة 1959م، وبدأ مسيرته لتعلّم فن الخط في مطلع السبعينات من القرن الماضي، عندما التحق بمكتب الخطاط الكويتي مصطفى بن نخّي، ثم التحق بمدرسة تحسين الخطوط في ثانوية عبد الله السالم، ليتخرج فيها سنة 1979، ثم رحل إلى العراق ومصر لينهل من معين كبار الخطاطين، وبعدهما إلى تركيا، حيث كان من أوائل الخطاطين الخليجيين المجازين من العاصمة إسطنبول بخطوط النسخ، والثلث، وجلي الثلث، والطغراء، والديواني، وجلي الديواني، وعمل بعد ذلك في تدريس الخط العربي في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة عدّة سنوات، وشارك في معارض فنية عديدة محلية ودولية، منها ملتقى الشارقة للخط، ومعرض دبي الدولي لفن الخط العربي، ونال عدة جوائز.
0 تعليق