الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
في كثير من القصص والحكايات والروايات الإفريقية الحديثة، يحتل نضال المرأة- من أجل الانعتاق من ربقة العادات والتقاليد البالية المكبلة- قدراً كبيراً، وذلك الأمر يعلن عن نفسه في صورة صراع بين القديم الذي هو بمثابة مستودع لتلك التصورات الزائفة حول المرأة، والجديد الذي يقدم نفسه من خلال أفكار ورؤى تجد مقاومة كبيرة، لكن السير نحو التحديث، يجب أن يمر عبر هذا الطريق الشائك وسط ألغام الصراعات.
لا يوجد في إفريقيا الكثير من المؤلفات الفلسفية أو الفلاسفة من أصحاب الأسماء اللامعة، لكن يبدو أن الرواية الإفريقية تلعب هذا الدور عن اقتدار وجدارة، إذ يبدو أن العديد من الروائيين هناك يمارسون دور الحكيم الموجود في التراث الإفريقي، وربما لذلك لا تخلو أعمال الأدب الروائي الإفريقي من الدلالات والمعاني الفكرية والفلسفية، إلى جانب الأبعاد الجمالية، وذلك يكاد يكون جلياً في هذه الرواية «أحوال عصابية»، للكاتبة الزيمبابوية تسيتسي دانغاريمبا، الصادرة عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2024، بترجمة: مريم داوود، وهي الجزء الأول من ثلاثية سردية، فهذا العمل يمتلك فرادة خاصة، كونه من النصوص التأسيسية للرواية الإفريقية الحديثة في قضاياها ومواضيعها المتعددة، وإن كانت قد اتخذت من قضية المرأة ثيمة أساسية، إلا أنها تطرقت للكثير من القضايا المتعلقة بالاستعمار وما بعده، وخصوصية دولة زيمبابوي ذات الأعراق المتعددة، حيث يعيش السود إلى جانب البيض حتى بعد نهاية الاستعمار وقيام الدولة الوطنية هناك، ما أفرز واقعاً مختلفاً ربما عن كثير من الدول الإفريقية الأخرى.
*ظلم اجتماعي
بصورة أكثر خصوصية تتناول الرواية واقع الظلم الاجتماعي والتمييز من خلال حكاية بطلتها تامبودزاي، والتي تحرم منذ طفولتها من جميع الامتيازات، لكونها فتاة إلى جانب أنها سوداء في واقع كان يسيطر عليه البيض وقت أحداث الرواية، ويعرض العمل نضال بطلته في الدفاع عن حقوقها وعملها الدؤوب والمتمرد من أجل التعليم والمساواة، في رحلة البحث عن الذات، وكانت تلك الفتاة أهلاً للتحدي لما تتمتع به من الذكاء وروح المثابرة، خاصة أن المجتمع تسيطر عليه العادات والتقاليد التي تعلي من شأن الذكور على الإناث، وتستهل تامبودزاي، رحلة الصراع في وقت باكر ضد تصورات أسرتها، إلى أن تصبح في مجابهة مع مجتمع كامل يتمتع فيه الرجال بامتيازات خاصة متوارثة، حيث كان عمها المتعلّم «بابا موكور»، هو الذي يُسيطر بقراراته على أفراد العائلة ومصائرهم بأمواله، وكانت لديه ابنة تدعى نياشا شديدة التمرد، حيث تتعلّم منها تامبودزاي كثيراً من الحقائق عن العم والعائلة والأفارقة والمتحكمين البِيض، وبهذه الخلفية تصبح تامبودزاي، مخلوقاً متدفقاً مفعماً بروح المقاومة تتجول بين العوالم والثقافات من دون موطن حقيقي، فهي لم تعد قادرة على التكيف مع أقاربها في القرية؛ لقد ذهب عقلها إلى أبعد من ذلك. لكنها لا تستطيع أن تندمج في عالم الرجل الأبيض لأنها سوداء.
*تفاصيل
تبدأ تفاصيل الرواية بنبأ وفاة الأخ الأكبر لتامبودزاي، وعلى الرغم من أن الخبر حزين، لكن بطلة العمل لم تبد أية مشاعر أسف تجاه ذلك، ربما لأن هذا الشقيق قد ابتعد منذ وقت باكر عن الأسرة، فقد تلقى تعليمه في مدرسة تبشيرية واستقر مع عمه بابا موكورو وعائلته، إضافة إلى أن الشيء الوحيد الذي كان يشغل بال تامبودزاي هو الالتحاق بالمدرسة ومواصلة تعليمها، لكن أسرتها لم تكن تمتلك المال الكافي، وفي إحدى زيارات العم بابا موكورو للأسرة يقترح أن يصطحب معه تامبودزاي إلى منزله ومن ثم البحث عن إمكانية التحاقها بمدرسة، وهو ما تحقق بالفعل بفضل اجتهاد ومثابرة هذه الفتاة، حيث نجحت في دخول مؤسسة تبشيرية مشهورة، لتتعرف هناك إلى الكثير من المتغيرات الثقافية، ويعتمل داخلها جدل الهوية، إذ ظلت تقاوم المتغيرات، وبالتالي ظلت حذرة من مواقفها اليومية ومتوترة من الظروف المحيطة بها.
*أساليب
الرواية تعتبر ضمن الكلاسيكيات، الإفريقية، على المستوى السردي، غير أنها تناولت العديد من القضايا الحديثة مثل وضعية النساء والهوية وقضايا ما بعد الاستعمار، واستطاعت المؤلفة أن تنجز أيقونة سردية عبر العديد من التقنيات والأساليب التي صنعت خلالها حوارية مميزة حول العرق والطبقة والنوع والتغير الثقافي، بشكل درامي يرصد ظروف وأبعاد ما بعد الاستعمار، وما نتج عنه من تحديات أبرزها قضية المرأة، ولعل اللافت في هذا العمل هو العنوان «حالات عصابية»، وهو يحيل إلى التوتر الناتج عن الصراع من أجل الحقوق والعدالة، وكذلك مقدمة الرواية وكلماتها الافتتاحية المتمثلة في عبارة: «لم أحزن على وفاةِ أخي»، والتي شكلت عامل جذب شديد الأهمية لمتابعة القراءة بشغف، كما برعت الكاتبة في رسم الشخوص خاصة شخصية البطلة وابنة عمها الملهمة وعمها الذي ينتمي إلى العالم القديم.
جاء العمل بما يشبه أدب السيرة، حيث احتشد بالمواقف والمنعطفات الاجتماعية المهمة، كما أن مقدمة الرواية حملت اقتباسات مهمة للروائي الفرنسي جان بول سارتر من مقدمته لكتاب فرانتز فانون «المعذبون في الأرض»، لتبيان قضية التشظي الذي تعانيه الشخصيات الإفريقية وفقدانها في بعض الحالات وفي ظروف محددة للهوية، بحيث إنها تريد أن تصبح بيضاء، وهي العوالم التي عبر عنها فانون في مؤلفه «وجوه سوداء في أقنعة بيضاء»، حيث أشار فانون إلى أن قبول ثقافة الرجل الأبيض يعني السماح بتدمير التراث الإفريقي، وقد وجد الكثير من النقاد أن الرواية بمثابة حوارية مع مؤلفات أخرى مثل رواية «الأشياء تتداعى»، للروائي النيجيري تشنوا أتشيبي، وكذلك رواية «قلب الظلام»، لجوزيف كونراد، خاصة في ما يتعلق بوضعية المرأة في مجتمع يهيمن عليه الذكور، وكذلك قضية إنهاء الاستعمار.
*صدى
الرواية وجدت صدى كبيراً وتفاعلاً مميزاً منذ صدورها عام 1988، حيث اعتبرت عملاً رائداً، فهي أول رواية تنشرها امرأة سوداء من زيمبابوي باللغة الإنجليزية، ومهدت الطريق أمام العديد من المؤلفين والمؤلفات الأفارقة الذين يتصدرون مشهد الرواية في القارة اليوم، ونسبة لقضاياها المهمة فقد تم التصويت على الرواية ضمن أفضل 100 كتاب في إفريقيا في القرن العشرين، والذي نظمته هيئة الإذاعة البريطانية عام 2018، ويشار إلى أن الكتاب صيغ بشكل غير عادي من منظور غير مألوف، وتم إدراجه ضمن مؤلف «500 كتاب عظيم للنساء»، من تأليف الكاتبة إيريكا بوميستر، كما أن الرواية فازت بجائزة أفضل كتاب لكتاب الكومنولث «قسم إفريقيا»، عام 1989؛ أي بعد صدورها بعام واحد.
*اقتباسات
«أنت ترى ما هو موجود، حيث يرى معظم الناس ما يتوقعونه».
«يحقُّ لك أن تحلم بما شئت».
«كن قادر على تحقيق أهدافك مهما كانت ظروفك سيئة».
«السيئ هو استعمار بلد، لكن الأسوأ هو استلاب شعب».
«رأيت أن الإيذاء كان عالمياً لا يقتصر على بلد».
«لقد تعايشنا في انفصال سلمي».
«لا أريد أن أكون مستضعفاً أمام أي شخص. ليس من حق أحد أن يكون كذلك».
«بمجرد أن تعتاد على المهانة ستستمر في ذلك».
«ستحاول أن تلقي بعض الأشياء وراء ظهرك بعنف، لكنها ستبقى».
0 تعليق