أيام الشارقة المسرحية تنطلق بصرخة تحذير تجاه مخاطر التلوث - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: علاء الدين محمود
انطلقت مساء أمس الأول «الأربعاء»، في قصر الثقافة بالشارقة فعاليات الدورة 34، لمهرجان «أيام الشارقة المسرحية»، وكان المفتتح بالعرض التونسي «البخارة»، الفائز بـ«جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عمل مسرحي عربي»، في الدورة الأخيرة من مهرجان المسرح العربي بالعاصمة العمانية مسقط، وهو لفرقة مسرح الأوبرا، تأليف إلياس رابحي، وإخراج صادق طرابلسي، الذي شارك في كتابة النص.
العمل وجد تجاوباً واسعاً من الحضور الكبير في القاعة الرئيسية في قصر الثقافة، حيث اعتمد على أفكار جديدة على مستوى العرض وطرح الرؤية والمعالجة الإخراجية، خاصة أنه يعالج قضية مهمة تتعلق بسلامة البيئة وصحة البشر، حيث يتناول بشكل رئيسي قضية التلوث البيئي الذي كان ولا يزال بمثابة كابوس يخيم على أهالي مدينة «قابس»، التي تقع في جنوب تونس، فعلى الرغم من الموقع المميز لتلك المنطقة الساحلية كواجهة سياحية، فإن التلوث جعل منها مكاناً يحتضن الأمراض والأوبئة؛ إذ ظلت المدينة تشكو من ظاهرة تسرب الغازات السامة الناتجة عن المجمع الكيماوي هناك، وكانت الكارثة الكبرى أن ذلك الوضع تسبب في إفراز مادة تدعى «الفوسفوجبس»، شديدة الأذى بالصحة، وظلت هذه المشكلة تؤرق مضاجع المسؤولين من أجل إيجاد حل لها، لتأتي هذه المسرحية ضمن محاولات إبداعية لدق ناقوس الخطر.
*وظيفة
العرض جاء مختلفاً في كل شيء، حيث احتشد بالأبعاد الجمالية والرموز والدلالات من أجل تعميق رسالة العمل، والابتعاد قدر الإمكان من الطرق الاعتيادية والمتكررة في تناول مثل هذه القضايا التي تصدت لها المسرحية، والتي تمارس فعل الانحياز لقضايا البسطاء والمهمشين وعامة الناس، وتعمل على معالجة مشاكلهم الواقعية اليومية، بالتالي فإن العرض يستعيد الوظيفة المجتمعية للمسرح التي طالما اغترب عنها، وينهل من العديد من المدارس والتيارات المسرحية المختلفة ليصوغ قصته الخاصة، وبطريقة إبداعية فإن العمل ينتقل من فساد البيئة إلى تلوث الأرواح في هذا العصر الذي تتسابق فيه البشرية بطريقة محمومة نحو التحديث والحياة المعاصرة بما يؤثر في الطبيعة وما مشاكل الاحتباس الحراري وغيرها إلا نتاج ذلك «التنافس»، الذي يقضي شيئاً فشيئاً على فضيلة «التعاون»، حيث ينفتح العمل على مشاكل هذا العصر الذي يموج بالصراعات وتسود فيه ثقافة الاستهلاك في ظل عولمة متوحشة صنعت هوامش يعيش فيها البشر حياة البؤس والفقر والمرض.
ويمتد هذا الألق الإبداعي داخل العرض في تناول عدد من القضايا التي يطفح بها المشهد المعاصر؛ مثل قضية المرأة والنوع، ودور الأدب والفنون في حياة الناس، ومختلف المشاكل التي يعانيها الإنسان في الوقت الراهن والعذابات التي تعيشها البشرية عبر سرد درامي محتشد بالأسئلة والإحالات التي تدعو لتأمل العميق في أوجه الحياة المختلفة، ويحمل العرض أبعاداً فلسفية وموقفاً من العالم يرفض الكثير من الممارسات والعادات السلبية التي أنتجها نمط العيش الحديث الذي بدلاً من أن يوجه لخدمة الإنسان، كان خصماً له، ولعل الملاحظة الجديرة بالذكر هنا هي تلك العلاقة الفريدة بين النصّ على مستوى الكتابة والرؤية الإخراجية، فمشاركة مخرج العمل في التأليف خدمت فكرة العرض بشكل كبير على مستوى المقاربات والمعالجات والأطروحات وذلك ناتج عن التقارب الفكري بين المؤلف والمخرج؛ حيث جمعتهما قضية مشتركة شجعتهما على هذا الإبداع الكبير الذي يشرك المتفرج في الهواجس والمخاوف المتعلقة بمستقبل البشرية ليصبح المتلقي جزءاً أساسياً من العرض، وهذا يفسر ذلك التفاعل الكبير الذي وجده العمل في أمس الأول في قصر الثقافة.
*أين الشمس
«أين الشمس؟» بهذا السؤال الذي مثل جملة مفتاحية، كانت بداية العرض، وهي صرخة أطلقها أحد أبطال العمل، والشمس المنشودة بطبيعة الحال هي شمس الخلاص والنور والحرية والانعتاق من حياة البؤس والبحث عن بيئة سليمة بعيداً عن ذلك التلوث الذي يخنق الأرواح، وهذا السؤال الحارق هو بمثابة تنبيه كبير للمشاهد للقضية التي يطرحها العمل، فعليه أن يركز بعمق في كل تفصيلة من تفاصيله، وفي كل علامة من علاماته، فكل رمز في هذه المسرحية يحمل دلالة وإشارة إلى فكرة وموضوع، ليعمل العرض على خلق تجانس واتساق فريد بين التقنيات والأبعاد الجمالية التي حملتها الموسيقى والإضاءة وعناصر السينوغرافيا المختلفة، وبين الفكرة والرؤية التي طرحها، فتلك البهرجة التي تم توظيفها بصورة مبتكرة أتت لتمرير تلك الحمولة الفلسفية الكبيرة، فالشمس التي يبحث عنها البائسون الغارقون في عذاباتهم هي الحلم بعالم جديد يؤطر له العرض.
*حكاية
وما كان لمثل هذا العمل أن يجد ذلك النجاح الجماهيري بما يحمله من أفكار ثقيلة، إلا عبر توظيف حكاية تنقذ العمل من التجريد المطلق في وضع الأفكار، حيث استهل العرض بمشهد لافت وهو استرجاع أحد أبطال القصة لذكريات من طفولته في المدينة الساحلية الموبوءة بالسرطان والأمراض الأخرى، فقد كان يذهب بشكل مستمر لمشاهدة البحر صحبة والده في مدينة قابس، وكانت تلك الزيارة توفر للطفل متعة كبيرة، حيث كانت الأضواء والأبخرة المتصاعدة بمثابة عوالم باهرة بالنسبة له، وكان يظن أن هذه المنطقة هي عبارة عن مدينة للألعاب، لكنه عندما كبر ونضج وعيه، عرف أن تلك الأبخرة ليست إلا تسربات الغاز التي تحمل الموت لأهل البلدة، وتتعمق الحكاية من خلال تناول حياة أسرة تدور نقاشاتهم حول الغازات والأثر البيئي للمنطقة الملوثة، وتتفرع تلك الحوارات لتناقش الحياة الزوجية والعلاقات الأسرية.
*رؤية إخراجية
نجح صادق طرابلسي في تقديم معالجات إخراجية جمالية ومقنعة في ذات الوقت، واعتمد على البساطة والواقعية في الديكور وتوظيف الموسيقى والأزياء، واستخدم الدخان بصورة مكثفة ليعيش المتلقي أجواء القضية التي تصدى لها العمل بامتياز، وإمعاناً في البساطة والسهولة تم توظيف اللغة التونسية المحلية، باعتبار أن العمل يستهدف في الأساس رفع الوعي البيئي لدى الناس من العامة والبسطاء، إلى جانب بعض الحوارات باللغة الفرنسية والتي تمت ترجمتها في الخلفية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق