«النور يضيء في الظلمة»..حكاية قلب إفريقي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: علاء الدين محمود

الأدب يقف دائماً شاهداً على العصر، لا يكتفي بنقل وقائعه وأحداثه فقط، بل وكذلك التفاصيل الصغيرة غير المرئية، ولكنها في ذات الوقت ذات تأثير كبير، لأنها تحمل الكثير من الدلالات والعبر والدروس، ولئن كانت هناك العديد من الحكايات التي حدثت ولم تروَ، فإن أجيالاً جديدة من الروائيين والكُتّاب القصصيين يقتفون أثر تلك القصص التي حدثت في أنحاء مختلفة من العالم.
رواية «والنور يضيء في الظلمة»، للكاتبة الزيمبابوية يبتينا جاباه، التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة عبير شاليش، هي من الأعمال السردية التي ستبقى طويلاً في ذاكرة القراء في مختلف أنحاء العالم، لكونها تتحدث عن وقائع وأحداث إنسانية، كما أنها تقف شاهدة على عصر سادته العنصرية في القرن التاسع عشر، حيث كانت تسود ثقافة الاستعمار والاستعباد والتي خلفت ويلات لا تزال تعاني بسببها القارة الإفريقية حتى اليوم، وهي حقبة حافلة بالقصص، وبقدر ما أنها تحتشد بحكايات تشهد على أنانية الرجل الأبيض، فهي بالمقابل ترصد أريحية الأفارقة ونبلهم الذي لم توثقه رحلات المستكشفين والمستشرقين، وتلك العوالم هي ضمن التفاصيل التي يتناولها السرد في هذه الرواية المتقنة والمحيطة، إلى جانب العديد من المشهديات التي تقدم إضاءة جيدة عن الإنسان الإفريقي في جميع أحواله، وتتحدث كذلك عن بعض مظاهر النفاق تجاه البيض، والتي تكونت بسبب الخوف، لكن الأهم أن الرواية تعكس كيف يقابل الإفريقي الوفاء بوفاء أكبر.
مغامرة
جاء في كلمة الناشر عن الرواية: «حكاية رجال أفارقة ونسوة، حملوا جثمان المستكشف المبشّر د. ديفيد ليفينغستون (1813 1873)، مع أوراقه وخرائطه، وعبروا بها عرض القارة الإفريقية من المناطق الداخلية إلى الساحل، من أجل أن يُعاد جسده وبقاياه إلى موطنه إنجلترا»، هذا المقطع لم يلخص حكاية الرواية فقط، بل هو مشهدية وصورة نابضة بالحياة تحمل دلالة الوفاء الشديد والحب العميق، ولعل المقطع مستوحى من البداية اللافتة والبارعة لأحداث الرواية، إذ جاء في مستهلها: «هكذا أخرجنا من إفريقيا جسد الطبيب ديفيد ليفينغستون (بوانا داودي)، حتى يمكن حمله عبر البحر ودفنه في أرضه»، تلك كانت البداية الخلاقة اللامعة لقصة رحلة طويلة جرت أحداثها في القرن التاسع عشر، حيث حمل هؤلاء الرجال والنسوة المخلصون جثمان ذلك المستكشف الغربي ليفينغستون، وحملوا معه مذكراته لمسافة ألف وخمسمئة ميل عبر قارة إفريقيا، حتى يمكن إرجاع رفاته إلى موطنه في إنجلترا.
الأيادي البيضاء
ولعل تلك الحكاية تحرك في القارئ الفضول لمعرفة من هو ذلك الرجل الذي حمل الناس في إفريقيا جثمانه وعبروا به كل تلك الأميال من أجل أن يرقد في مقبرة في بلاده الأم، حيث تتضمن الرواية تعريفاً بالرجل فهو من أعلام المستشرقين والمستكشفين والمبشرين الغربين، لكنه كان من الجيدين الذين تركوا سيرة حسنة، حيث أن ديفيد ليفينغستون هو طبيب ومبشر ومستكشف اسكتلندي، كان مصمماً على معرفة مصدر نهر النيل، كما كان يأمل في استخدام نفوذه لوقف تجارة الرقيق السواحلية في شرق إفريقيا، ولأن الرجل كان شديد التدين ويحمل قلباً طيباً، لم تعجبه طريقة معاملة المستعمرين الهولنديين والبرتغاليين للشعوب الإفريقية، إذ إن كتاباته أخبرت العالم عن تجارة العبيد، فكان أن قوبل ذلك الأمر بمحبة كبيرة من الأفارقة، وقد توفي ليفينغستون بسبب الملاريا، في مايو من عام 1873، في بحيرة بانغويولو بزامبيا، وتم إرجاع معظم جسده إلى إنجلترا، ولكن العديد من أصدقاء ليفينغستون الأفارقة قاموا بدفن قلبه في إفريقيا التي أحب، بينما حملت بقية الجثة إلى بريطانيا، حيث تمت مواراة جسده في ثرى كنيسة وستمنستر، والرواية حفلت بالخرائط والأوراق في تتبع تلك الرحلة العجيبة التي عبَّرت فيها تلك الجماعات الإفريقية عن احتفائها بذلك الرجل الطيب، وهي الرحلة التي تركت أثراً كبيراً في بريطانيا، ويتوقف السرد عن محطة مهمة ولافتة وهي شاهد قبر ليفينغستون، الذي كتب عليه: «هنا يرقد الرحالة المحسن ديفيد ليفينغستون، أحضرته إلى هنا الأيادي البيضاء المخلصة وعبرت به اليابسة والبحر».
أسئلة
الحيرة التي في الرواية تكاد تتسرب إلى القارئ، حيث يثير العمل الكثير من الأسئلة حول تلك الرحلة، بما يعكس معدن الأفارقة، فالرجال الذين كانوا يعملون في خدمة ليفينغستون، قاموا بتحنيط جثته، حتى لا تتعفن أو يصيبها الضرر، وبإصرار شديد قطعوا مسافة طويلة من أجل أن يرقد ذلك الرحالة في تراب بلاده، وهنا تبرز الأسئلة، هل كانوا بحاجة إلى ذلك؟ ولماذا قاموا بذلك الفعل في تكبد مشاق رحلة استغرقت قرابة العام؟ هل كانوا يطمعون في مكافأة؟ تلك الأسئلة وغيرها تجيب عنها أحداث الرواية وأبطالها الذين قابلوا إحسان ذلك الرجل الغريب بمحبة كبيرة، فقد ظنوا أن ذلك هو الأفضل لذلك الرحالة، أن يسكن جسده في بلاده بدلاً أن يبقى وحيداً غريباً، وذلك الأمر يعكس مدى العاطفة الشديدة التي يتسم بها إنسان إفريقيا، فهؤلاء الرجال والنساء لم يكتفوا بحمل جثة الرحالة فقط، بل وكذلك مذكراته وأرواقه وكتاباته، التي لولاها، ربما لم يكن د. ليفينغستون، بهذه الشهرة التي وجدها عقب رحيله، ذلك الرجل الذي أحب القارة الإفريقية، وربما كان يُمَنِّي نفسه في أن يدفن فيها، فقد جاء في إحدى مذكراته: «وصلنا إلى أحد القبور في الغابة، هذا هو نوع القبور الذي أفضله، أن أرقد في غابة هادئة وساكنة وألا يكون هناك ما يزعج عظامي».
أساليب
الرواية استطاعت أن تستعيد تلك الحقبة من تاريخ إفريقيا والعالم، وما كان يجري في ذلك الوقت من أحداث في ظل الاستعمار والعبودية، وعملت الكاتبة على توظيف لغة أقرب إلى الشاعرية بحيث نجحت في صناعة الصور اللافتة والمشهديات الراسخة مع التقاط لتفاصيل صغيرة من وقائع جرت، مع قوة في الوصف للشخوص والأماكن والمشاعر المتباينة خلال تلك الرحلة الغريبة، ولعل اللافت الأبرز هو رسم الشخصيات، حيث إن جميع المحكيات كانت بلسان أبطال العمل الذين عملوا في خدمة الرحالة، ومنهم: حليمة وهي طباخة الطبيب ليفينغستون، امرأة حادة اللسان، وجاكوب وينرايت، ذلك العبد المحرر المتدين، حيث تكشف الرواية عن كل ما هو متعلق بثنائية العبودية والاستعمار وكيفية تعامل البيض مع الأفارقة السود.
عنوان
وربما من الأشياء التي يتوقف عندها القارئ طويلاً هو ذلك العنوان الذي حملته الرواية «والنور يضيء في الظلمة»، كعتبة نصية مفسرة لفضاءات النص السردي، حيث إن النور هو ذلك الحب الذي حمله ذلك الرحالة الأبيض، بينما الظلمة هي حياة العبودية والاحتلال والتي تسبب فيها البيض، فمن قلب تلك الظلمة جاء النور، والعنوان مستوحى من نص إنجيلي يقول: «والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه».
الأدب يقف دائماً شاهداً على العصر، لا يكتفي بنقل وقائعه وأحداثه فقط، بل وكذلك التفاصيل الصغيرة غير المرئية، ولكنها في ذات الوقت ذات تأثير كبير، لأنها تحمل الكثير من الدلالات والعبر والدروس، ولئن كانت هناك العديد من الحكايات التي حدثت ولم تروَ، فإن أجيالاً جديدة من الروائيين والكُتّاب القصصيين يقتفون أثر تلك القصص التي حدثت في أنحاء مختلفة من العالم.
اقتباسات
- «التفكير لا يجلب سوى الآلام».
- «وهب حياته للمنكوبين مهووساً بسر النهر العظيم».
- «النيل ليس مجرد نهر بل معجزة لا تدركها العقول».
- «لا حجارة تدل على أين يرقدون ولا مرثيات تعلن موتهم».
- «من خلف العتمة الموحشة يشع نور ساطع».
- «أفكر في أمي كثيراً لكنها نادراً ما تزورني في أحلامي».
- «كل ما أريده هو الذهاب إلى مكان لم يذهب إليه أحد من قبل».

دار روايات

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق