يدور كتاب «فلسفة الجنون.. تجربة التفكير الذهاني» (ترجمة غلاء سمير أنس) حول الفلسفة والجنون من الألف إلى الياء، ويوضح مؤلفه ووتر كوسترس بداية كل منهما، وكيف يمكن أن تكون نهاية أحدهما بداية الآخر، والحجة الرئيسية في هذا أن للفلسفة والجنون علاقة قوية ببعضهما.
يعرض المؤلف لتجربته الشخصية فيقول: «مررت مرتين بفترات متواصلة من الجنون، استمرت كل منهما نحو شهرين تقريباً، وشخصت حينها بالذهان لدى الأطباء النفسيين، وقد حفرت كلتا الفترتين على جدران عقلي، حيث أدركت أنهما تختلفان في طبيعتيهما عن جميع فترات الجنون الأخرى، التي تعرضت لها في حياتي، ولهذا أجدهما متشابهتين كثيراً إلا أنه يفصل بينهما عقدان من الزمن».
وقائع
يشير المؤلف إلى وقائع حياتية مر بها خلال الفترتين، منها أنه كان يعتقد بعد أن تجاوز الأربعين من عمره أنه يفهم على الفور جميع لغات العالم، وخشي حينها من أن يصلب، وعُرف بقدرته على التخاطر مع الآخرين، وأن والده وعمه اخترعا الإنترنت، وأنه كان ثمة تحالف سري أو مؤامرة بين مجموعة من كبار السن الحكماء، يراقبونه عبر برنامج تجسس، وكل ذلك لأجل الصالح العام، كما اكتشف أن الأرض مسطحة، وأن الطيران الجوي ليس سوى مجرد وهم تابع لمؤامرة واسعة الانتشار.
يتعامل المؤلف مع بيانات المجنون وأحاديثه على أنها تحمل قيمة فلسفية محتملة، والهدف من هذا الكتاب هو تحويل هذه الفلسفات المحتملة إلى حقيقة وإلى صياغة فلسفية لتجربة الجنون، فينظر في المفاهيم المتداولة حول تلاشي الموجودات في تجربة الجنون، وحول وجود المجنون في عالم غير واقعي، ولا أساس له، عالم من الفراغ المحض غير المبني على أي أسس واقعية، حيث تنتفي الحدود، وينتفي التناغم كما يشير المحللون النفسيون.
يوضح المؤلف أن المجنون يصبح مغترباً عن العالم الواقعي، وفي حيرة من انعدام أسس الوجود في عالمه الخاص والفراغ الوجودي الذي يعمه ويملؤه في الوقت نفسه، وحينها يواجه المجنون أسئلة ذات أهمية كبيرة مثل: ما الحياة؟ وما الخير والشر؟ وإلى أين يتجه الزمن؟ وعلى أي حال يشعر المجنون، وكأنه في عالم غامض وغريب يرفض جميع أسس الحكم والتفكير المقبولة في العالم الواقعي، فيقع في حيرة تصديق أي منهما، وهي حيرة مطلقة ترتبط بأسس وجوده فيعمد إلى أسئلة تصبح بالنسبة إليه تبعاً لأهميتها، مسألة حياة أو موت من قبيل: من أنا؟ وما دوري في الحياة؟ وما طبيعة الكون الذي أعيش فيه؟.
قد يناقش الفلاسفة في أعمالهم موقع الجنون، ومعناه، ضمنياً أو بشكل صريح، حيث تعمل أفكارهم كالمجاديف التي تجدف فوق محيط المعنى واللامعنى، والجنون، كما أنه معروف أن بعض المفكرين قد مروا بفترات جنون في حياتهم، أو على الأقل وجدوا أنفسهم في حالات عقلية فريدة، من أمثلة توماس الأكويني الذي كتب عشرات الأعمال الضخمة بينما كان يمر بتجاربه غير العادية.
بعد عدة قرون فوجئ عالم الرياضيات والمفكر الفرنسي باسكال، بومضة من ومضات الجنون.
إصابات
في العصر الحديث مر العديد من الفلاسفة بفترات من الجنون بالمعنى الواسع للكلمة مثل هيوم، وفوكو، ونيتشه، فقبل 11 عاماً من وفاته عانى نيتشه انهياراً عصبياً وجنوناً، ولم يعد قادراً على الكتابة، وبعد فترة فقد القدرة على النطق بأي كلام مفهوم، وعاش بقدرات عقلية متواضعة، وفي هذا الصدد يعتبر نيتشه مثالاً كلاسيكياً على إصابة المرء بالجنون، وتدميره له.
ووتر كوسترس مؤلف هذا الكتاب فيلسوف ولغوي هولندي، اشتهر بكتابه «الجنون المحض.. بحث عن التجربة الذهانية» و«فلسفة الجنون.. تجربة التفكير الذهاني» خاض تجربتين على حافة الجنون استطاع من خلالهما دعم أفكاره ووجهات نظره في كتبه، مستعينا بالخبرات الفلسفية والروحانية والصوفية، مؤمنا بأن الإجابة على أكثر الأسئلة الوجودية جوهرية، ينطوي على خوض إحدى التجربتين: إما التفلسف أو الجنون.
الجنون على حافة الفلسفة - ستاد العرب

الجنون على حافة الفلسفة - ستاد العرب
0 تعليق