الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
لطالما ألهمت حياة الفقراء والمهمّشين، الذين يعيشون في أدنى درجات السلم الاجتماعي، الكثير من الكتاب الروائيين الذين قدموا في أعمالهم السردية صوراً مختلفة عن العيش وسط البؤس عبر رصد الوقائع اليومية والغوص في أعماق نفوس البؤساء الذين يمتلكون تصورات قد تبدو مختلفة عن الحياة والوجود، غير تلك التي تمتلكها القوى الاجتماعية المرفّهة والطبقات المخملية، وحاولت الكثير من تلك الأعمال الروائية أن تعكس تلك الرؤى التي يمتلكها الفقراء، والتفاوت الاجتماعي الحاد في بعض الدول وأثره في المشاعر.
رواية «حياة عنيفة»، للكاتب والسيناريست والمخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني، التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة: معاوية عبد المجيد، تعدّ أحد تلك الأعمال الروائية التي تناولت حياة الشباب الذين تربّوا في أحضان طبقات اجتماعية فقيرة، ويجمع العمل بين السرد الروائي وبعض من السيرة الذاتية، ويتطرق إلى منعطفات ومحطات من حياة المؤلف؛ ليقدّم توليفة تمزج بين الخيال والواقع، حيث يعمل المؤلف على تناول حياة البؤس التي عاشها هؤلاء الفقراء، وفي ذات الوقت يتحدث عن أحلامهم المقموعة وطموحاتهم التي لا تتحقق، ويتحول السرد إلى طاقة للأمل للمهمشين والفقراء الذين يعيشون في حياة الظل في تلك المدن الكبيرة المخيفة.
*حكاية
تنفتح الرواية على حكاية بطلها الرئيسي تومازو، الذي يعيش في حي عشوائي خارج روما، يفعل كل ما يمكنه فعله لكسب القليل من المال الذي يساعده على الحياة، يحلم تومازو وأصدقاؤه بتحسين أحوال سكان الحي، وبعد فترة من الزمن يتمّ القبض عليه في شجار بالسكاكين، ويحكم عليه بالسجن لمدة عامين، ليعيش هناك حياة غاية في القسوة غيرت كثيراً من أفكاره ومعتقداته التي كان يحملها، وعندما يخرج من السجن ينضمّ إلى عائلته في شقة جديدة منحتها لهم الحكومة ضمن المنازل التي يحصل عليها أصحاب الدخل المحدود، فيعمل تومازو قدر الإمكان على الانسجام مع الواقع الجديد، والتقرب من الطبقات البرجوازية، وعيش حياة تبتعد عن الفقر الذي خبره ولم يجلب له غير الشقاء والسجون، فكان أن بدأ يتخلى عن رفاقه القدامى، وحتى يكون قريباً من الطبقة الوسطى، قرر الانضمام إلى أحد الأحزاب السياسية المعبّرة عن تلك الطبقة، وأن يتزوج من حبيبته القديمة، ويعيشا معاً حياة البرجوازية.
وعي مقاوم
وعلى الرغم من تلك الأحلام التي بدأت تراود تومازو بحياة رغيدة لا يعكر صفوها ماضيه الأليم، فإن قدر بطل الرواية فيما يبدو هو أن يظل وفياً للفقراء والكادحين، فقد تبخّرت أحلامه وتبددت طموحاته، ذلك بعد أن أصيب فجأة بداء السلّ، الأمر الذي اضطره إلى دخول المستشفى، وهناك تبدأ مرحلة جديدة في مسيرته لكنها مرتبطة بماضيه ونشأته، حيث يطلع على أوضاع العاملين والمرضى في المستشفى والواقع المتردي، وفي أثناء تواجده هناك، يندلع إضراب بين الممرضين والعاملين، فيقرر تومازو مساعدة المضربين بما يمتلك من خبرة في هذا المجال.
صور
صور كثيرة ومشهديات مختلفة تحتشد بها الرواية، لتعكس شيئين: أولاً حياة الفقراء ويومياتهم وصراعهم مع معاناة العيش، والأمر الثاني هو الموقف الذي يكاد يكون فطرياً لبطل الرواية في الاندفاع نحو مساعدة الفقراء والانتماء إليهم، ويستعرض العمل العديد من الصور التي تؤكد على التضامن عند المحن بين هؤلاء المساكين، ففي إحدى المرات فاض النهر وكاد أن يغرق القرية كلها، وتعلق امرأة في الفيضان، ولا يتمكن رجال الإنقاذ من إنقاذها؛ لأنهم لا يعرفون الأرض جيداً، فيقرّر تومازو إلقاء نفسه في الوحل من أجل إنقاذها، لكن ذلك الجهد الذي بذله يفاقم مرض السل لديه، ويقتله في نهاية الأمر.
مركز وهامش
وتقدم «روايات»، إضاءة عن الرواية في المقدمة التي وضعتها، جاء فيها «حياةٌ عنيفة، ليست استثناءً عن روايات بازوليني الأخرى التي ينحو فيها إلى اعتماد العامّيّة الدارجة في أوساط سكّان الصفيح لتصوير عالم الجريمة والعصابات التي تغزو المركز وتستوطن الهامش. أبطاله هم الفتية المشاكسون من أبناء الضواحي والعشوائيّات، المهمّشون وسكّان القاع ممّن يقطنون الأكواخ عند تخوم روما، هناك حيث تنعدم البنية التحتيّة وتتفشّى الأمراض ويستفحل الجهل وتستيقظ الفاشيّة. يركّز آلته السرديّة على تتبُّع مسارات بطل الرواية منذ طفولته، فيصاحبه في كلّ تلك الأمكنة، لنتبيّن كيف يقضي وقته بين الكافيهات والشارع، وكيف يلاقي حبيبته في المروج والسينما، وكيف ينضج وعيه بين السجن والمستشفى»، وتحمل تلك المقدمة مفتاحاً حقيقياً للدخول في عوالم الرواية القاسية التي قد تخلو فعلاً من أية نسمة أمل في الخلاص، لكن جماليات السرد تمرّر حمولة البؤس الثقيلة، وفي ذات الوقت تشير إلى أن حياة التضامن التي يعيشها هؤلاء الفقراء، رغم الفاقة، هي شيء في غاية الجمال، وإن كان هناك ثمة أمل فهو في تلك الروح التضامنية.
احتجاج
تبرز الرواية كنوع من الاحتجاج الصارخ، ولعل أكثر ما يميز هذا السرد أنه ابتعد عن أية مسحة رومانسية، كالتي تبرز في العديد من الأعمال الروائية والسينمائية التي تناولت حياة الفقر والبؤس، بل عمل على التعبير عن الواقع كما هو، واستفاد من عمله في السينما في صناعة الصور التي تبقى راسخة في الذهن، وكذلك المشاهد القوية، الأمر الذي قد يشكل صدمة للمتلقي من هول تلك العوالم التي تتحدث عنها الرواية، وهو ما قصده بازوليني عبر تلك الكتابة التراجيدية المؤلمة، فقد أراد للألم الذي يشعر به الفقراء أن يمتد ليحس به الآخرون.
ولعل اللافت في هذا العمل السردي المميز، هو تلك الخاتمة التي أنهى بها بازوليني الرواية عندما أشار إلى أن جميع الأحداث واقعية، وذلك يفسر عدم ميل الكاتب نحو تلطيف المفردات والألفاظ في لغة السرد، تلك هي رسالة الرواية الحقيقية، أن تخدم التفاصيل المتخيلة الواقع لا أن تغترب عنه.
إضاءة
بيير باولو بازوليني «1922 1975»، كاتب ومخرج سينمائي إيطالي ولد في مدينة بولونيا وتوفي في أوستيه بالقرب من روما، درس الفلسفة في جامعات العاصمة الإيطالية، وبدأ اسمه يظهر على الساحة المحلية شاعراً وروائياً. كانت أعماله الأدبية تهتمّ بالحياة البائسة والأحوال القاسية التي تعانيها الطبقات العمالية الكادحة. وتمثل حبه للسينما بمحاولات أولى في كتابة السيناريو، وكان فرحه عظيماً حين تبنى المخرج الإيطالي فيديريكو فليني أحد سيناريوهاته. بدأ بازوليني أولى تجاربه في الإخراج مع فيلم «أكاتونه»، عام 1961، وموضوعه الطبقات الفقيرة التي تعيش بمساكن بائسة في أطراف روما. وبقي في أعماله اللاحقة مخلصاً لهذه الموضوعات؛ حيث يعدّ من أهم السينمائيين الملتزمين، ومعلماً كبيراً في السينما الإيطالية والعالمية. ومن أشهر أفلامه «طيور كبيرة وصغيرة» و«حظيرة الخنازير»، و«قصص كانتربري»، الذي نال جائزة مهرجان برلين السينمائي، كما له مؤلفات مشهورة منها «أوديب ملكاً... سيناريو فيلم».
اقتباسات
«أما عن الموت، فقد كان مصمماً على أن يموت في سريره».
«الثقافة المتوسطة هي مفسدة دائماً».
«لم يتبقَّ من الشمس إلا شعاع أخير».
«لهذه النقود تاريخ مجيد».
«لقد سئمت من الركض».
«نحن ما نزال الأقوياء ولسوف ننجح».
«السفاحون هم رفاقك الذين يحملون أفكارك ذاتها».
«النحاس يصاب بالصدأ».
0 تعليق