الخطوط الجَلِيَّة.. مساحات مُعبأة بالجمال - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: جاكاتي الشيخ

يتميز العديد من الخطاطين المعاصرين بتطبيق مختلف التقنيات الفنية، التي تظهر جماليات الخط العربي من زوايا مختلفة، فبالإضافة إلى عملهم على شكل الخط بحدّ ذاته، ككتابة إبداعية فنية، لا يغفلون جوانب أخرى مثل تناسق الألوان، وطبيعة التصاميم وما تتطلبه من الدقة الهندسية المواكبة للعصر، ومن الفنانين الذين يبدعون في ذلك الخطاطة الإماراتية نرجس نور الدين.
تعتبر نرجس نور الدين من الخطاطات المتميزات ممن يركزْن في تصاميم أعمالهنّ الخطية على مراعاة العلاقة البصرية بين الكتلة والفراغ، حيث تعطي تلك التقنية، في كتابة الخطوط العادية – مثل خط الثلث – مساحة متساوية للإيجابية والسلبية، من خلال تساوي نِسبتَيْ الفراغ والكتلة، بينما تقتصر على إحداهما في الخطوط الجَلِيّة – مثل خط الديواني الجلي - من خلال تعبِئة الفراغات، وهو ما يجعل للمساحة دوراً مهماً في تعبير كل نوع من الخطوط عن نفسه، بالإضافة إلى كونه يُنبِّه إلى أن طريقة وضع اللوحات وتوزيعها في المعارض، وأماكن العرض المختلفة لا تكون عشوائية، حيث يضفي ذلك على الأماكن تناسقاً فنياً، يساعد في عدم تشتيت ذهن المشاهد، ومن أمثلة اشتغالها بِوَعْي على تلك التقنية هذه اللوحة التي نتناولها هنا.
دِقَّة
اختارت نرجس للوحتها نص الآية 36 من سورة الجاثية، التي يقول فيها الله، جلّ جلاله: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَٰوَاتِ وَرَبِّ ٱلْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فهي آية في الثناء على ربّنا جل جلاله، لأنه سبحانه وتعالى وحده مستحق لكل الحمد، على نعمه التي لا تحصى، فهو ربّ السماوات والأرض ومُدبّرهما، وربّ ما فيهما من الخلائق أجمعين، وهو خالقهم كذلك، ولذلك فإن هذا الحَمْد ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، فله الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق، حيث أنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، وهذا ما يستشعره ويؤمن به كل من آتاه الله فضل العقل، حين يفكّر في نفسه، ويتأمّل ذاتَه وحياته، فيدرك نعمه عليه، ولطفه به، كما ينعكس ذلك في كل ما حوله من آثار عظمة ربّه في هذا الكون الرحب المنظّم في دقة وإحكام.
وقد التقطت ذائقتها الفنية الشكل المتناسق لكلمات الآية وحروفها، وأرادت أن تخرجها في قالب جمالي آسر، فكتبتها بخط الديواني الجلي، الذي يستمد جماليته من عدة خصائص، منها استدارة حروفه وتقويسها وتداخلها، وكثرة العلامات الزخرفية التي تملأ الفراغات بينها، وهي مميزات قد تكون على حساب سهولة قراءة المتلقي للوحة أحياناً، حتى إنه قد يصعب التمييز بين بعض حروفه، مثل الألف واللام إن كانا في بداية الكلمة، إلا أنها تكسبه هيئة جمالية خاصة، بالإضافة إلى أن هذا الخط قابل لتنويع التصاميم، مثل شكل التكوين الذي اختارته نرجس لهذه اللوحة.
إتقان
من أجل تطبيق رؤيتها التصميمية بإحكام، مع مراعاة خصائص الديواني الجلي، وعكس دلالات نص الآية، نَفَّذَت نرجس لوحتها في تكوين تصاعدي بديع، حيث انطلقت بكتابة «فللهِ» كقاعدة للتكوين الخطي، للدلالة على أن هذا الخَلقَ كلَّه في قبضة الله جلّ جلاله، لأنه خالقه وربّه، وكتبت «الحَمْدُ» بشكل عريض، للإشارة إلى أنه تبارك وتعالى المستحق للحمد الكثير، ثم كتبت «ربّ» الأولى في حضن «الحمد» للدلالة على أنه استحق ذلك الحمد لكونه الرَّبَّ الخالق، ولتأكيد معنى الآية بصرياً، جعلتْ كلمة «ربِّ» الأولى حاملة لكلمةَ «السَّمواتِ» التي كتبتها بشكل عريض أيضاً، للإشارة إلى عِظَمِها الذي يَدلّ على عِظَم الخالق، وجعلت كلمة «ربِّ» الثانية حاملة لكلمة «الأرضِ»، التي كتبتها أعلاها مُرَكِّبَةً عليها «ربِّ» الثالثة، للدلالة على كوننا خلفاءَ ربِّنا في هذه الأرض، وللإشارة إلى كثرة ما نعلمه فيها من عظيم خلقه، وأوَّله ما يرتبط بخلقنا كبشر، وما نعيش فيها من نِعمِه التي لا تُحصى، وقد كتبت حرف العطف متوسّطاً بين المستويين لملء الفراغ بشكل سلس، وليؤدي دوره في الرّبط اللفظي، فيما كتبت «العالمين» في قمّة التكوين الخطِّي، وبشكل عريض للدلالة على شأن بقية الخلق الكثير، الذي لا يعلمه إلا هذا الخالق العظيم.
إن المتأمل لهذا العمل لا يفوته المستوى العالي لإتقانه، ليس في الكتابة الخطية فحسب، ولكن في تناسقه الشكلي أيضاً، خاصة في الكلمات والحروف المتشابهة، مثل ما عليه الحال في «ربّ» المتكرّرة، وتناسق لونيه الأسود الدّال على الثقة بالله، والبنّي الدّال على ارتباط المؤمنين بحمده جلّ في قدرته.
إضاءة
ولدت نرجس نور الدين سنة 1975م في أبوظبي، حصلت على دبلوم في الدراسات المصرفية، وعملت في هذا المجال حتى 2006 عندما تفرّغت لفن الخط العربي، وكانت قد انتسبت لمعهد الخط العربي في الشارقة سنة 2000، ثم بيوت الخطاطين، فتابعت تدريبها على يد خالد الساعي، وقصدت إسطنبول سنة 2006، لمتابعة دراسة خط الثلث على يد الخطاط حسن جلبي، والخطاط داوود بكتاش، ثم طهران سنة 2007 لمتابعة دراسة خط النستعليق (الفارسي) على يد الخطاط عباس آخوين، وحصلت على عدة جوائز، منها: مكافأة في خط الجلي الديواني في الدورة ال 6 لمسابقة إرسيكا الدولية للخط العربي في إسطنبول، 2004، وجائزة تشجيعية في مسابقة الخط الكلاسيكي من المهرجان الثقافي الدولي للخط العربي – بتلمسان في الجزائر 2011، وأقامت العديد من ورشات الخط المفتوحة للجمهور، كما شاركت في عدة معارض محلية وعالمية منذ عام 2001، في الإمارات العربية المتحدة والجزائر وإيران وألمانيا والصين ودول أخرى.

أخبار ذات صلة

0 تعليق