الناشر: دائرة الثقافة في الشارقة
يتميز المنتج الأدبي الياباني في مجالات القصة والرواية والشعر، بالغوص العميق داخل النفس البشرية والكشف عن أحوالها المختلفة وتناقضاتها الكثيرة. وكتاب «راشومون... وقصص أخرى»، للكاتب رايونوسوكي أكوتاجاوا، الصادر في طبعته الأولى عن دائرة الثقافة في الشارقة، بترجمة كامل يوسف حسين، هو في الأصل مجموعة قصصية، تضم أهم إبداعات أكوتاجاوا السردية ومنها أيقونته «راشومون»، وهي من أعماله القصصية الشهيرة التي يعرفها القراء في مختلف أنحاء العالم.
في هذه المجموعة يتدفق إبداع هذا الكاتب الياباني الكبير، حيث تحمل نصوصه أبعاداً جمالية وفكرية، وتحاول أن تتخذ موقفاً أدبياً من الحياة والوجود، وتتأمل في واقع الإنسان، وترصد تناقضات الواقع المختلفة والمتغيرات التي تطرأ في المجتمع وأثرها في البشر والقيم والأخلاق التي يحملونها، لذلك تعد كتابات أكوتاجاوا، خاصة نصوص هذا الكتاب، قمّة الأعمال الأدبية اليابانية التي كُتبتْ في بدايات القرن العشرين والتي لا يزال لها بريقها ورونقها حتى الآن، فهي تعكس وهجاً خاصاً، كونها تحمل هموم الإنسانية وعذاباتها، ولئن كان ثمة نصوص تقرأ في كل وقت من دون أن تفقد المعاني التي شيدتها، فإن هذه القصص لأكوتاجاوا، تنتمي إلى عصرنا هذا، فتلك الكآبة وذلك البؤس المخيم في أجواء السرد يشبه تماماً ما تعيشه البشرية في عالم اليوم من تشظٍ ونزوع نحو النزعة الفردية.
*نقد
يقع الكتاب في 150 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على 6 قصص تعد من أروع النصوص التي كتبها أكوتاجاوا، وهي: «في غابة»، «راشومون»، «عصيدة إليام»، «الضحية»، «كيسا وموريتو»، و«التنين»، إضافة إلى توطئة المترجم، ومقدمة مميزة للمترجم الإنجليزي هوارد هيبيت، تضيء على أعمال أكوتاجاوا، والأدب الياباني عموماً، ولعل من أهم ما جاء في تلك المقدمة قوله: «للقصص سطح لامع يخطف البصر، وربما يخدع ويضلل، وقد وصف النقاد السطحيون أكوتاجاوا، بأنه متكلف، أو متحلل، وقللوا من شأنه باعتباره هاوياً، ولما كانوا غير متأهبين لقوة أعماله الهجائية، فقد افترضوا أنه لا يكترث إلا بالنسيج البديع لنثره»، وهذه الكلمات تضعنا في عمق أدب أكوتاجاوا، لكونه يتمرد على الواقع والسائد، وكذلك لأن نصوصه في هذا الكتاب، التي تعتبر قمة أعماله، تحمل الكثير من المضامين العميقة وتتسم بالطابع النقدي.
من أهم النصوص السردية في هذا الكتاب، قصة «راشومون»، وذلك نسبة لأهمية هذا النص ليس بالنسبة للكاتب فقط، بل وكذلك للأدب الياباني عموماً، وهي تحكي عن قصة مدينة يابانية قديمة، ووجدت صدى كبيراً في كل أنحاء العالم، فإلى جانب جماليات السرد، فهي تحمل الكثير من الرؤى والمعاني، فتحولت القصة إلى عمل مسرحي كبير يحمل الاسم ذاته.
*أوجه مختلفة
أما النص الذي لا يقل أهمية عن «راشومون»، فقد جاء بعنوان: «في الغابة»، حيث تستند الحكاية إلى قصة وقعت منذ أكثر من ألف عام في اليابان، وتحديداً في عام 750 م وأثناء فترة «هييآن»، كانت اليابان وقتها قد دخلت في حروب أهلية، وعمت الفوضى أنحاء البلاد وحلت معها المجاعات، مع تخلي الحكومة المركزية عن دورها في ضبط الأمن، انتشرت حالات السطو والحرابة، حيث يتحدث النص عن رجل من طبقة المحاربين «الساموراي»، وكان يسير مع زوجته فقطع عليهما الطريق لص قتل الزوج واغتصب الزوجة، وكان أن اكتشف الواقعة حطاب كان يسير بالقرب من موقع الجريمة فقام بإبلاغ الشرطة التي استدعت الشهود وهم: الحطاب والزوجة وقاطع الطريق، وتبرز هنا تناقضات عجيبة في أقوال الجميع، فبينما أقر قاطع الطريق بجريمته وقتله للرجل، إلا أن الزوجة فجرت مفاجأة عندما أكدت أنها هي القاتلة، بينما كانت المفارقة في حديث الحطاب الذي ذكر أن الزوج قد انتحر وقام بقتل نفسه بالسيف الذي كان يحمله.
وتتابع القصة رصد الأقوال المتباينة والروايات المتناقضة للشهود الذين قدموا حكايات وقصص مختلفة حول الواقعة، فقاطع الطريق يشير إلى أنه كان مسترخياً في الغابة حين رأى الزوج وزوجته، حيث كان الزوج يرتدي عباءة الساموراي ويحمل سيفاً ويمتلك حصاناً أبيض، وكانت الزوجة ترتدي نقاباً سقط منها فتبين لقاطع الطريق جمالها الفاتن، فكان أن طمع اللص فيها وأرادها لنفسه، ولم يكن راغباً في قتل الزوج، بل أراد أن يزيحه بعيداً حتى يأخذ ما يريد من تلك المرأة الجميلة، وقام في البدء بإغراء الزوج، حتى يتخلى عن زوجته، بأن عرض عليه مقابض سيوف ثمينة، وبالفعل استجاب الرجل لذلك الإغراء ووافق، فقام قاطع الطريق بربطه في شجرة حتى لا يزعجه، واغتصب الزوجة التي غضبت من زوجها وأرادت قتله انتقاماً لكرامتها، غير أن قاطع الطريق أمسكها حتى لا تفعل ذلك، إلا أنها دعته إلى فك وثاق زوجها ومبارزته، وبالفعل تبارز الرجلان، وقتل قاطع الطريق الزوج.
*صدى
أغرت قصتا «في الغابة»، و«راشومون»، صنّاع السينما فقام المخرج الياباني الأشهر أكيرا كوروساو، بتحويلهما إلى فيلم لقى نجاحاً ورواجاً كبيرين، حيث وظف الحكايتين ومزج بين القصتين لينتج الفيلم الذي حمل عنوان: «راشومون»، وهو أول فيلم ياباني يحظى باستقبال دولي كبير؛ وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي في عام 1951، وحصل على جائزة الأوسكار الفخرية في حفل توزيع الجوائز الرابع والعشرين في عام 1952، ويعتبر واحداً من أفضل الأفلام اليابانية، وواحداً من أفضل الأفلام التي تم إنتاجها على الإطلاق.
*أسلوب وتقنيات
المجموعة القصصية تقف شاهدة على براعة الكاتب أكوتاجاوا، في توظيفه لأساليب وتقنيات سردية مختلفة عما كان معروفاً وسائداً في الأدب الياباني، حيث شكلت منعطفاً جديداً هناك، فكل قصة هي عبارة عن ملحمة درامية صغيرة، وكل نص يستلهم فلسفة «الزن»، اليابانية، وتحتشد النصوص بالأفكار والرؤى الفلسفية والنقدية، إضافة إلى استخدام اللغة النثرية الشاعرية، وجاءت النصوص لتشكل محكمة ضد القيم والأخلاق التي سادت في المجتمع الياباني، وذلك يوضح إلى أي درجة كان أكوتاجاوا، غير مرحب به في الساحة الإبداعية في لحظة ظهوره، فقد كانت كتاباته تحمل تصورات ناقدة، وعلى الرغم من أجواء الكآبة والقسوة إلا أن أكوتاجاوا، نجح في تمرير تلك الحمولة الصعبة عبر السخرية والتهكم.
*إضاءة
يعد رايونوسوكي أكوتاجاوا «1892 ـ 1927»، واحداً من أبرز كتاب اليابان، درس الأدب الإنجليزي في جامعة طوكيو الإمبراطورية، وبدأ في الكتابة والنشر وهو ما يزال طالباً في الجامعة. سمي بـ «أبو القصة القصيرة اليابانية»، وبعمر الـ35 أقدم على الانتحار، وبعد موته بثماني سنوات أطلق صديقُ عمره، الكاتبُ والناشر كان كيكوتشي، جائزةً أدبيّة باسمه «جائزة أكوتاجاوا»، لتصبح أشهر الجوائز الإبداعية في اليابان، وترك أكوتاجاوا ما يزيد على المئتين وخمسين عملاً، أغلبها قصص قصيرة.
*اقتباسات
«غرقت كلماتها الأخيرة في بحر الدموع».
«هل أنا الوحيد الذي يقتل الناس، ألا تقتلوهم بسلطتكم ومالكم؟».
«لم تكن لدي قوة للانتحار».
«كان كل شيء ميتاً كالموتى في قبورهم».
«أفكار عاجزة وبعيدة عن التماسك، هي احتجاج على قدر لا يرحم».
«هل الأفضل أن يتضور المرء جوعاً أم أن يصبح لصاً».
«كانوا يرجعون فشلهم لنقص قدرته هو على الفهم».
0 تعليق