د. راسل قاسم
لطالما ارتكزت القاعدة الذهبية في التجارة على المنتجات والخدمات الأكثر رواجاً، حيث كان يقاس النجاح بمدى تحقيق مبيعات عالية لعدد محدود من المنتجات ذات الطلب الكبير. غير أن التطورات التكنولوجية والتغيرات في سلوك المستهلكين أحدثا تحولاً جذرياً في هذه المعادلة، ما أفسح المجال لظهور مفهوم الذيل الطويل (Long Tail)، الذي بات يشكل عاملاً محورياً في إعادة رسم ملامح الاقتصاد والإدارة في العصر الرقمي.
تمت صياغة هذا المصطلح لأول مرة من قبل كريس أندرسون مؤسس وصاحب مؤتمر«TED» العالمي في عام 2004، للإشارة إلى الظاهرة التي تقع عندما تحقق المنتجات ذات الطلب المنخفض إجمالي مبيعات يتفوق على المنتجات ذات الطلب المرتفع. تخيل منحنى بياني حيث تمثل قمة المنحنى المنتجات الأكثر شعبية، بينما يمتد الذيل الطويل ليشمل عدداً ضخماً من المنتجات المتخصصة التي قد يطلبها عدد قليل من الأشخاص، لكن مجموع مبيعاتها الكلي يصبح أكبر من مبيعات المنتجات الشائعة.
لعبت التكنولوجيا وخصوصاً التجارة الإلكترونية والمنصات الرقمية، دوراً محورياً في انتشار الذيل الطويل، حيث أزالت الحواجز التي كانت تفرضها قنوات التوزيع التقليدية، وأتاحت للشركات تقديم مجموعة واسعة من المنتجات والخدمات التي تستهدف شرائح محددة جداً من العملاء. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك شركة أمازون التي لا تعتمد فقط على الكتب الأكثر مبيعاً، بل تحقق جزءاً كبيراً من إيراداتها من الكتب النادرة والمتخصصة التي لم يكن بالإمكان توزيعها بسهولة في المتاجر التقليدية. كذلك «نتفليكس» التي توفر محتوى متنوعاً يناسب أذواقاً متباينة، وليس فقط الأفلام والمسلسلات الرائجة. وسبوتيفاي التي أتاحت المجال لفنانين مستقلين للوصول إلى جمهور عالمي دون الحاجة إلى شركات إنتاج ضخمة.
يصل بنا هذا إلى القول إن الأسواق المتخصصة لم تعد هامشية، بل أصبحت جزءاً أساسياً من استراتيجيات الشركات الكبرى التي تدرك أن التنوع في العرض يولّد طلباً متراكماً يتجاوز بكثير مبيعات المنتجات الأكثر شهرة.
يقدم الذيل الطويل فرصاً غير مسبوقة في عالم الإدارة، حيث يمكن للشركات ورواد الأعمال تبني استراتيجيات قائمة على التخصص الدقيق بدلاً من التنافس في الأسواق المشبعة. الفكرة الجوهرية هنا هي أن النجاح لا يعني بالضرورة استهداف أكبر شريحة من العملاء، بل تقديم قيمة استثنائية لفئة محددة من الجمهور المستهدف. ويمكن لنا أن نسوق العديد من الأمثلة التطبيقية على ذلك، فبدلاً من تقديم خدمات استشارية عامة، يمكن التخصص في مجالات دقيقة مثل الاستدامة للشركات الصغيرة أو إدارة المخاطر في قطاع معين، وبدلاً من تقديم دورات في برمجة اللغات الشائعة، يمكن التركيز على لغات برمجية جديدة أو نادرة تستهدف فئة محددة من المتخصصين.
ومثل هذه التوجهات تضمن الوصول إلى عملاء أقل عدداً لكن أكثر ولاءً، حيث إن الفئات المتخصصة عادةً ما تكون على استعداد لدفع المزيد مقابل خدمة أو منتج يلبي احتياجاتها بدقة.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن قصة الذيل الطويل ليست ذات نهاية وردية وسعيدة دائماً، فرغم أن هذا المفهوم قد أحدث تحولاً في فهم سلوك الأسواق، إلا أن تطبيقه لا ينجح في جميع القطاعات بنفس الفعالية. ففي حين تزدهر هذه الاستراتيجية في مجالات مثل الكتب والموسيقى بفضل وجود منصات رقمية، إلا أن دراسات حديثة، مثل تلك التي أجراها معهد ماكين - وارتون، تشير إلى أن التنوع الكبير في الخيارات قد لا يؤدي بالضرورة إلى توزيع أكثر عدالة للطلب. بل على العكس، عندما يواجه المستهلكون عدداً هائلاً من الخيارات، فإنهم غالباً ما يميلون إلى المنتجات والعلامات التجارية الأكثر شهرة، ما يعزز هيمنة المنتجات الرائجة بدلاً من توزيع الطلب على المنتجات المتخصصة.
هذا يثير تساؤلاً مهماً، هل يمكن للشركات الاعتماد على الذيل الطويل وحده كاستراتيجية للنمو؟ أم أن النجاح في الاقتصاد الرقمي يتطلب مزيجاً من بناء علامة تجارية قوية، واستغلال خوارزميات التوصية، وضمان تجربة مستخدم تسهل على العملاء اكتشاف المنتجات المتخصصة؟ الإجابة تكمن في فهم طبيعة كل صناعة وسلوك مستهلكيها، حيث قد يكون التركيز على المنتجات المتخصصة مربحاً في بعض الأسواق، بينما تظل الهيمنة للمنتجات الأكثر طلباً في أسواق أخرى.
من نافلة القول، إن النجاح اليوم لا يعتمد على محاولة جذب الجميع، بل على إتقان فن التخصص والتميز في سوق محددة، وهذا ينقل مفهوم الذيل الطويل من النظرية الاقتصادية، إلى المنهجية العملية التي تتيح للشركات ورواد الأعمال بناء نماذج عمل قوية تضمن لهم البقاء والتوسع في العديد من القطاعات.
0 تعليق