د. أيمن سمير
منذ عودة الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض في 20 يناير الماضي، تعالت الأصوات سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين التي تحث الرئيس السابع والأربعين على الاستعداد لمواجهة غزو صيني محتمل ضد تايوان، ووفق عدد من صقور الجمهوريين ومنهم مات بوتينغر، نائب مستشار الأمن القومي السابق في إدارة ترامب خلال الفترة بين سبتمبر 2019 ويناير 2021 فإن الصين تستعد لغزو تايوان، وهناك اتفاق بين مخططي الاستراتيجية الأمريكيين على أن السؤال ليس: هل تغزو الصين تايوان أم لا ؟ بل السؤال الصحيح من وجهة نظرهم هو متى تغزو الصين تايوان لاستعادتها بالقوة ؟ وهو ما دفع الإدارة الأمريكية الجديدة للقيام بخطوتين خطيرتين من وجهة النظر الصينية التي تقول دائماً إنها تفضل استعادة تايوان بالدبلوماسية وليس عبر لغة البندقية.
الخطوة الأولى هي تلويح الولايات المتحدة بالتخلي عن سياسة «الصين واحدة»، فبعد أيام قليلة من جلوس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المكتب البيضاوي، فتحت وزارة الخارجية الأمريكية الباب على مصراعيه لتغيير السياسة الأمريكية الراسخة تجاه الصين عندما قامت بحذف عبارة «لا نعترف باستقلال تايوان» من أوراق قائمة الحقائق التي تحكم العلاقات الأمريكية مع جزيرة تايوان من على موقع وزارة الخارجية الأمريكية، وهو ما يعني من وجهة النظر الصينية أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يمهد لتغيير السياسة الأمريكية القائمة تجاه الصين وتايوان منذ عام 1979 عندما اعترف الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بسياسة «الصين واحدة» والتي تقول بأنه توجد في العالم «صين واحدة»، وتشمل جزيرة تايوان التي يسكنها نحو 26 مليون نسمة
الخطوة الثانية هي إعلان الرئيس دونالد ترامب أثناء القمة الأمريكية الهندية بحضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بواشنطن في 14 فبراير الجاري، بأن الولايات المتحدة سوف تبيع أسلحة متطورة للهند منها طائرات الجيل الخامس «إف 35»، وهو أمر زاد من قلق الصين التي لها خلاف حدودي طويل مع الهند في منطقة لاداخ.
وأعادت الخطوتان اللتان قامت بهما إدارة ترامب الصينيين إلى ذكريات الولاية الأولى للرئيس الجمهوري عندما أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة ينظر إلى بكين مع موسكو باعتبارهما المنافسان الاستراتيجيان لواشنطن على الساحة الدولية، وذلك في استراتيجيته للأمن القومي التي أعلنها في 19 ديسمبر 2017، وينظر لهاتين الخطوتين بأنهما يمكن أن تعرقلا عقد قمة قريبة بين الرئيسين الأمريكي والصيني.
لكن على الجانب الآخر بدأ الأمريكيون يخططون لكيفية إجبار الصين على عدم غزو تايوان من خلال التأكيد على التكاليف الباهظة التي سيتكبدها الصينيون حال قرروا استعادة تايوان بالقوة، وذلك بالحديث صراحة وعلانية وفي وسائل الإعلام عن الخطوات التي ينبغي على واشنطن القيام بها لمنع الصين من التفكير في استعادة جزيرة تايوان بالقوة. فما هي استراتيجية «الخندق المغلي» التي تعول عليها واشنطن لإجهاض أي هجوم صيني محتمل على تايوان؟ وكيف يلعب حلفاء واشنطن الآسيويون دوراً بارزاً في إجهاض التدخل العسكري الصيني لاستعادة تايوان؟ وهل تستطيع تايوان أن تصمد في وجه الصين كما صمدت أوكرانيا أمام روسيا لثلاث سنوات رغم فارق الإمكانيات وعدد السكان؟
يقين بالغزو
ربما لا توجد قضية متفق عليها بين الجمهوريين والديمقراطيين بقدر قضية مواجهة الصين، ورغم الخلافات العميقة بين ترامب وسلفه الرئيس الديمقراطي جوزيف بايدن إلا أن بايدن أبقى الصين كمنافس استراتيجي لبلاده على الساحة الدولية في استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها البيت الأبيض في أكتوبر 2022، وخلال ولاية بايدن أيضاً تكرر الحديث الأمريكي عن استعدادات صينية لاستعادة تايوان بالقوة، ولذلك أرسل الديمقراطيون بقيادة بايدن كميات غير مسبوقة من السلاح والذخيرة إلى تايوان، فقبل أقل من عام، وفي إبريل 2024 أقر الكونجرس بيع أسلحة لتايوان بمبلغ يزيد على 7 مليارات دولار ضمن حزمة السلاح الشهيرة بقيمة 97 مليار دولار لكل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، وفي نفس العام وافقت واشنطن على بيع أسلحة أخرى تزيد على 3 مليارات لتايبيه، ورغم حديث الرئيس ترامب عن الخلل في الميزان التجاري الأمريكي مع تايوان إلا أن جلسات تثبيت وزرائه في مجلس الشيوخ كشفت عن وجود تخوف أمريكي حقيقي من غزو صيني لتايوان على غرار الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022 عبر سيناريوهات عدة أبرزها الحصار البحري والجوي، أو سيطرة الصين على الجزر البعيدة والنائية عن الجزيرة الرئيسية لتايوان، أو محاولة الصين منع وصول المساعدات العسكرية لدعم تايوان التي يمكن أن تأتي لها مساعدات عسكرية من قواعد أمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وفيتنام.
ورغم نفي الصين الدائم لفكرة غزو تايوان إلا أن الولايات المتحدة ومنذ أكثر من عقدين وهي تعتقد أن الصين تتحين الفرصة لاستعادة تايوان منذ صدور «قانون مناهضة الانفصال» عام 2004، والذي يسمح للصين باستخدام «الوسائل غير السلمية» لاستعادة تايوان إذا حاولت «الانفصال» عن السيادة الصينية، لكن متابعي الرأي العام الصيني في مراكز أبحاث الحرب الأمريكية يقولون إن «قانون مناهضة الانفصال» بات يسيطر على العقل السياسي الجمعي الصيني حالياً، والذي يرى أن الفرصة مواتية في الوقت الحالي لاستعادة تايوان بالقوة اعتماداً على أن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تدعم 3 جبهات في وقت واحد، في أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، وتكمن أهمية تايوان للولايات المتحدة ليس فقط باعتبارها تتشارك مع واشنطن ما يسمى «بالقيم الغربية الديمقراطية»، لكن تايوان باتت «الرقم الصعب» في ضمان سلسلة التوريد والإمداد الخاصة بأشباه الموصلات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة، وهناك تقديرات بأن استعادة الصين لجزيرة تايوان وتوقف صادرات أشباه الموصلات التايوانية إلى الولايات المتحدة من شأنه أن يخفض الناتج القومي الأمريكي من 7 إلى 11 %، وهو الناتج القومي البالغ نحو 28 تريليون دولار عام 2024
ويعتقد واضعو استراتيجية «الخندق المغلي» أن الصين استفادت بالفعل من مراقبة وتقييم تجربة نجاح الأوكرانيين في الصمود أمام الجيش الروسي، ولهذا وضعت الولايات المتحدة خطة شاملة لتعظيم التكاليف والخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية حال فكرت الصين في استعادة تايوان بالقوة، وتتضمن هذه الاستراتيجية أبعاداً أخرى بجانب خطة «الخندق المغلي» The Boling Moat وتتضمن الرؤية الأمريكية سلسلة من الخطوات وهي:
أولاً: رفع كفاءة الجيش التايواني
تقوم الحسابات الأمريكية على أن الجيش التايواني أضعف بكثير عند مقارنته بالجيش الأوكراني عندما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، ويعود سبب هذا الضعف لمجموعة من الأسباب يأتي في مقدمتها أن خطط الجيش التايواني تقوم على «حرب قصيرة»، بينما ما جرى بين روسيا وأوكرانيا واستمرار الحرب بين موسكو وكييف لما يقرب من 3 سنوات يدفع الجيش التايواني لتغيير استراتيجيته لتقوم على توقع «حرب طويلة» تمتد لسنوات، كما يحتاج الجيش التايواني لتحسين مستوى الذخيرة لديه، ناهيك أن الاستعداد القتالي لوحدات الجيش التايواني تتراوح بين 55 % و65 % فقط، بالإضافة إلى ضرورة تحسين الميزانية العسكرية، وتقوية وتسهيل هيكل الجيش التايواني، وهو ما يحتاج لرفع الجاهزية القتالية لأعلى من ذلك بكثير حتى يقرب الجيش التايواني من معايير القتال التي وضعها حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» بقيادة الجيش الأمريكي، ويجري الحديث بشكل خاص على ضرورة تطوير الدفاعات الجوية والبحرية التايوانية لمواجهة «الموجات الأولى» من الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة التي سوف تبدأ بها الصين الحرب، وتتوقع الولايات المتحدة أن ترسل الصين نحو 3000 صاروخ بالسيتي في أول يوم من الحرب على تايوان، وهو ما يحتاج إلى أن تكون لدى تايوان أنظمة دفاعية ذات مديات متعدده تشمل الدفاعات القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى.
ثانياً: محاكاة للهجوم
بعد سلسلة من التدريبات الجوية والبحرية الصينية حول تايوان بات لدى مخططي الحرب الأمريكيين رؤية واضحة حول ما يمكن أن تقوم به الصين، ويقولون: نحن نعرف الآن ما لدى الصين، لكن السؤال الأكبر هو كيفية اختبار الجاهزية العسكرية التايوانية، وكيفية اختبار الاستعداد التايواني للعمل جنباً إلى جنب مع الحلفاء، لذلك يقترح مناصرو استراتيجية «الخندق المغلي» أن تكون هناك محاكاة كاملة لما يمكن أن يقوم به الجيش التايواني مع الجيش الأمريكي وحلفائه الآسيويين.
ثالثاً: شعب مقاتل
تدعو الرؤية الأمريكية لإفشال أي مسعى صيني لاستعادة تايوان بالقوة مع العمل على ضرورة أن يكون الشعب التايواني كله متأهباً ومستعداً للحرب الطويلة، وأن يكون الشعب قادراً على العمل والإنتاج ومد جبهة القتال بكل ما تحتاج إليه في ظل ظروف عسكرية كاملة وتحت قصف الأهداف المدنية والمدن والمناطق الصناعية.
رابعاً: المزايا غير المتكافئة
تنظر الولايات المتحدة إلى أن تايوان تتمتع بمزايا استراتيجية ممتازة لم تكن متاحة لأوكرانيا، حيث يفصل بين تايوان والبر الصيني مضيق عميق يصل اتساعه لنحو 110 ميل، كما تتمتع تايوان بساحل جبلي يصعب اجتيازه بسهولة من جانب القوات البرية الصينية، كما أن الساحل التايواني متعرج وصعب وعاصف يجعل من الصعب على السفن العسكرية الصينية الاقتراب منه، وهو ما يساعد الصواريخ التايوانية على استهداف أي بوارج حربية تقترب من الساحل التايواني، ويقولون إن صيغة «الحرب غير المتكافئة» نجحت مع التايوانيين قبل تجربتها بين روسيا وأوكرانيا عندما فشل الفرنسيون في غزو تايوان عام 1884 رغم نجاح الفرنسيين في ذلك الوقت في بناء إمبراطورية ما وراء البحار في منطقة الإندوباسيفيك قرب كاليدونيا الجديدة.
خامساً: الشركاء الإقليميون
استثمرت الولايات المتحدة المليارات في بناء القواعد وعقد الشراكات الدفاعية وتوحيد الثقافة العسكرية مع حلفائها الآسيويين خاصة عند الحديث عن اليابان التي بها 50 ألف جندي أمريكي، وكوريا الجنوبية التي يقيم فيها 29500 جندي أمريكي، و9 قواعد عسكرية في الفلبين، وقواعد أمريكية عملاقة في أستراليا، وتعمل قيادة المحيط الهادئ في الجيش الأمريكي على تعزيز الخطوط اللوجستية وكيفية تسريع نقل القوات من كل هذه القواعد لمساعدة تايوان حال التعرض لآي هجوم صيني، وخلال سنوات بايدن الأربع ضاعفت الولايات المتحدة جهودها لبيع مزيد من السلاح والذخيرة لحلفائها الآسيويين مثل بيع صواريخ توماهوك لليابان، ونظام الدفاع الصاروخي الأغلى في العالم «ثاد» إلى كوريا الجنوبية، وهو نهج قد يتوافق مع رؤية الرئيس الحالي دونالد ترامب في بيع مزيد من السلاح والذخيرة لشركاء بلاده الآسيويين على غرار سعيه لبيع المزيد من السلاح والذخيرة لشركائه في حلف «الناتو» على جانبي الأطلسي، وتذهب الولايات المتحدة إلى أكثر من ذلك بأن حلف «الناتو» لا بد أن يلعب دوراً مسانداً للجهود الغربية في دعم تايوان، وتمهيداً لهذا الدور بدأت السفن الحربية الأوربية سواء من كندا وألمانيا وبريطانيا المرور في مضيق تايوان في إطار ما تسميه الولايات المتحدة تعزيز مبدأ «حرية الملاحة» العالمية في المضيق.
سادساً: توسيع الصراع
لا تكتفي الولايات المتحدة بتعزيز الجبهة التايوانية وتعزيز حلفاء أمريكا في آسيا بل تخطط للتأثير في الجبهة الداخلية الصينية حال قرار بكين لاستعادة تايوان، ويأتي في مقدمة هذه الخطوات دعم الجماعات الانفصالية داخل الصين خاصة في شينجيانج والتبت وهونج كونج مع دعم واضح لخصوم بكين الإقليميين خاصة الهند، و 5 دول لديها خلافات مع الصين حول السيادة في بحر الصين الجنوبي وهي فيتنام والفلبين وسنغافورة وإندونيسيا وبروناي
سابعاً: استبدال الاعتمادية
تخشى الولايات المتحدة أن نشوب صراع بين الصين وتايوان سوف يؤثر سلباً في الاقتصاد العالمي خاصة في ظل اعتماد الكثير من المصانع الغربية والأمريكية على سلاسل الإمداد الصينية، وهو سيناريو يشبه اعتماد أوروبا على الغاز الروسي قبل الحرب في أوكرانيا، لذلك بدأت الولايات المتحدة في شراكات مع دول آسيوية لبناء مصانع عملاقة لأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية خاصة مع الفلبين واليابان وكوريا الجنوبية، كما تعمل الولايات المتحدة بشكل تدريجي على استبدال سلاسل الإمداد الهندية لتحل محل سلاسل الإمداد الصينية عبر ما يسمى بـ«الممر الهندي».
رغم رسالة الرئيس ترامب التي تقول إنه يعمل على تصفير وإنهاء الحروب في العالم إلا أن استراتيجيته تقوم أيضاً على أن أفضل طريقة لتجنب الحرب هي الاستعداد للحرب.
[email protected]
0 تعليق